التعليم كيما يبصر بدائع الوجود وعجائب الفنون حتى بهت الرجل وقال حائراً مندهشاً:
أنا الذي أحدثت هذا؟ وهل كل ذلك لأني أعلنت حاجة نفسي والتمست المخرج من غمي وكربتي؟ ليت شعري ماذا يراد بنا وإلى أي طريق نحن مسوقون.
وأنه ذات يوم لمكب على عمله إذ بلغته أنباء الطاعون يفتك في العمال ويصرعهم بالآلاف فخرج يستوثق من الخبر فإذا هو صحيح وإذا الموتى والذين في سكرة الموتى مختلطون هؤلاء بأولئك قد غصت بهم تلك المساكن الضيقة التي يعيش في أحدها فياله من سم جديد أضيف إلى ما قد أفعم به ذلك الهواء المنتن الخبيث ويا لها ضربة صعقت الأبناء والآباء والأقوياء والضعفاء ونكبة اجتمع فيها العقلاء والسفهاء والأعداء والأولياء.
وماذا لديه من أسباب الهرب وسبل الفرار؟ الحمد لله لا منجى ولا مهرب ولا منفذ ولا مذهب ومكث الرجل حيث هو ومات أحبابه بعينيه وأتاه قسيس يحاول أن يخفف عنه ويرقق فؤاده في تلك المحنة التي تنسى المرء أخلاقه وتخرج الإنسان من سجيته ولكن الرجل أجاب قائلاً:
أي فائدة في كلامك لرجل كتب عليه المقام في هذا المكان الخبيث فعادت نقمة وعذاباً كل حاسة أرادها الله له باب نعمة ولذة وأصبحت كل لحظة من عمره عبأ يضاف إلى ما يفدحه من الأعباء ويهد كاهله من الاثقال أعرني نظرة إلى السماء ونفساً من خالص الهواء وأكحل عيني بمرود الضياء واسقني جرعة من سائغ الماء وأعني على النظافة وخفف عني ثقل هذه الحياة ورقق من كثافة هذا الهواء وترفق بهذه الجثث وأحملها من هذه الغرف الضيقة فلقد ألفنا صورة الموت حتى كاد يذهب من نفوسنا جلاله وهيبته.
كل ذلك والرجل منكمش في عمله ونه كذلك ذات يوم وبه من الحزن والوحشة ما به إذ وقف عليه رئيسه في ثوب حداد وكان قد فجع بزوجته وكانت جميلة وبرة كريمة ورزء كذلك ابنه ولم يكن عنده سواه.
قال الرجل أيها الرئيس أنك قد رزئت جليلاً وفارقت خليلاً فعزاء حسناً وصبراً جميلاً وقد أعطيك السلوان لو أملكه ولكن أين مني ذلك.
فشكره الرئيس ولكنه قال ويل منكم معشر العمال. منكم نبع الداء ونجم البلاء. ولو أنكم أطبتم معايشكم وعنيتم بأسباب النظافة والصحة لما بت أندب غلامي ثاكلا وأبكي زوجتي