فالصيام عباد الله! قد يكون صياماً عن الطعام والشراب والشهوات، فمن كان صيامه عن الطعام، والشراب والشهوة، فله في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب وحور عين، كما قال عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين.
ومن الناس من يصوم عما سوى الله عز وجل، فيحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى.
ومن صام في الدنيا عن شهواته، أدركها غداً بعد وفاته، ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته، عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، أنت في دار شتات فتأهب لشتاتك، واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك، واجعل الفطر عند الله يوم وفاتك.
أهل الصيام! أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب.
فينبغي للمسلم عباد الله! إذا نوى الصيام أن ينوي ترك كل الذنوب والمعاصي، وأن يصوم سمعه وبصره وجوارحه، كما قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
ولما كان الصيام سراً بين العبد وبين ربه يشتهر أهل الصيام يوم القيامة برائحة أفواههم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).
فكل عبادة ينشأ عنها أثر مكروه عند العباد تكون محبوبة عند الله عز وجل، فخلوف فم الصائم -أي: الرائحة التي تنبعث من المعدة الخالية من الطعام- أطيب عند الله من ريح المسك.
والشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه ينزف دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) أي: وقاية، فهو وقاية لصاحبه من النار؛ لأن النار حفت بالشهوات، والصيام يكسر الشهوات المحرمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
فالصيام يكسر الشهوات، ويطوع النفس لرب الأرض والسموات؛ ولذلك ورد في فضل الصيام قوله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي! منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه.
فيشفعان).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باب يقال له: الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون).
ولم يقل: للجنة ولكن قال: في الجنة، إشارة إلى أن في هذا الباب من الراحة ومن النعيم ومن البهجة والسرور مما في الجنة، فقال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض).
وهذا المقصود به: صيام النافلة، فإذا كان يوم صيام في النافلة يباعد الله عز وجل بهذا اليوم بين العبد وبين النار سبعين خريفاً، فكيف بصوم الفريضة الذي هو أفضل وأقرب إلى الله عز وجل.
وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى النسائي عن أبي أمامة عن عمل يتقرب به إلى الله عز وجل فقال: (عليك بالصيام، فإنه لا عدل له أو لا مثل له)، فدله على الصيام.
فالصيام عباد الله! من أحب العبادات إلى الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل يحب من العباد أن يعاملوه سراً، فالصيام سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل؛ ولذلك كان من أحب العبادات إلى الله عز وجل، فينبغي علينا أن نصون الصيام، فمن صان صيامه وجد أجر صيامه عند الله عز وجل.
فنسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، وأن ينفعنا بأعمالنا الصالحة، وأن يتجاوز عن الزلات والسيئات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.