فنحن لا نستكثر هذه الكرامة، أو الخارقة الرحمانية على من وصف بهذه الصفات السالفة، وليست كل خارقة كرامة، وليس كل من أتت على يده خارقة من الخوارق نشهد بأنه ولي من أولياء الله، فالخارقة قد تكون خارقة رحمانية، وقد تكون خارقة شيطانية، والمقياس الذي نرجع إليه هو مقياس الكتاب والسنة، فلا بد أن يقاس الشخص بمقياس الكتاب والسنة، فيمكن أن تأتي الكرامة على يد مبتدع أو فاسق أو غير معروف بالصلاح، فلا بد أن يقاس نفس الشخص بمقياس الكتاب والسنة، وأن تقاس نفس الخارقة بمقياس الكتاب والسنة.
ولا شك أن أفضل الأولياء هم الأنبياء، وأفضل الأنبياء هم المرسلون، وأفضل المرسلين هم أولو العزم وهم: محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم.
وأفضل هؤلاء جميعاً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويليه في المرتبة إبراهيم الخليل، وقد رتب الحافظ ابن كثير أن بعد الخليل إبراهيم موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم، ولم يرتب العلماء بين نوح وبين عيسى أيهما أفضل؟ فهؤلاء الخمسة أولوا العزم من الرسل هم أفضل الرسل والأولياء، وقد ذكرهم الله عز وجل في آيتين من كتابه.
ثم يبين الحديث بعد ذلك كيف تكون ولاية الله عز وجل، وكيف يترقى العبد في درجات الولاية؟ فيقول: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فينبغي أن يبدأ العبد بالفرائض، فكما قيل في الأثر: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وحسن النية فيما عند الله عز وجل، فينبغي على العبد أن يبدأ بالفرائض؛ لأنها أكثر تقريباً وتحبيباً لله عز وجل.
فمن أراد طريق الولاية فليبدأ بالفرائض، ويراجع نفسه، فيؤدي الصلاة في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الجماعة وفي أول الوقت، ويتم الركوع والسجود والخشوع، ويصوم الشهر كما شرع الله عز وجل، ويحج بيت الله الحرام إن استطاع إليه سبيلاً، ويخرج زكاة ماله إن كان عنده مال تجب فيه الزكاة، فيراجع العبد الواجبات التي افترضها الله عز وجل عليه، ويدخل فيها الواجبات التركية، كترك الغيبة والنميمة والغش والزنا، وشرب الخمر وغير ذلك، وهي من باب أولى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا).
ويأتي بحد الاستطاعة في الأوامر دون النواهي، فينبغي على العبد أن يكمل الفرائض أولاً؛ لأنها رأس المال، ثم بعد ذلك يتحبب ويتقرب بكثرة النوافل، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، والنوافل هي ما عدا الفرائض من أجناس الطاعات، فلو جمعنا كل ما يحبه الله عز وجل ويرضاه واستثنينا من ذلك الفرائض فما بقي فهو النوافل.
قال العلماء: ما بال النوافل كانت هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض؟ وأجابوا بأن العبد يفعل الفريضة مخافة العقوبة ورجاء الأجر، أما النافلة فيفعلها بنية التحبب والتقرب إلى الله عز وجل، فلما خلصت النية في النوافل كانت هي السبب الموصل إلى محبة الله عز وجل دون الفرائض.
فالعبد ينبغي عليه أن يستكمل الفرائض، ثم يفتح على نفسه أبواب النوافل، وهي كثيرة متنوعة بحسب اختلاف استعدادات الناس وقابليتهم، فهناك نوافل في الصلاة: كالسنن الرواتب وهي اثنا عشر ركعة، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً قبل الظهر، واثنان بعد الظهر، واثنان بعد المغرب، واثنان بعد العشاء، واثنان قبل الصبح).
وورد في فضل هذه النوافل حديث أم حبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى في يوم وليلة اثنا عشر سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة).
ومن نوافل الصلاة: قيام الليل، قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل) كما ورد في صحيح مسلم.
ومن نوافل الصلاة: صلاة الضحى، وتحية المسجد، وسنة الوضوء، ومطلق التنفل بالصلاة في غير أوقات الكراهة.
وهناك نوافل الصيام: كصيام ست من شوال، وصيام الإثنين والخميس، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وصيام يوم وإفطار يوم، وهو أحب الصيام إلى الله عز وجل، وهو صيام داود عليه السلام.
وهناك نوافل الإنفاق في سبيل الله عز وجل، ونوافل الذكر، ونوافل الحج والعمرة بعد أداء الواجب، فالمسلم بعد أن يستكمل الفرائض يبدأ يتحبب ويتقرب بالنوافل حتى يصل إلى محبة الله عز وجل، كما جاء في الحديث: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) وفي بعض الروايات: (ورجله التي يمشي بها).
قال الحافظ: وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره ويده ورجله؟ ثم أورد سبعة أوجه في تفسير هذا الجزء من الحديث القدسي، وأقرب هذه الأوجه للصواب أن العبد بكليته يكون مشغولاً بالله عز وجل، فإذا سمع سمع ما يرضي الله، وإذا أبصر أبصر ما يرضي الله، وإذا مد يده فبط