جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم"1 عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} 2 إنما كان يومئ إلى هذا النوع من التربية السامية التي أتاحها للمؤمنين نزول كتابهم منجما بحسب الحاجة، متدرجا مع الوقائع والأحداث.
أراد القرآن مثلا -على الصعيد التربوي- أن يحطم العصبية الجاهلية الرعناء، وأن يستبدل التقوى بتفاخرها بالآباء، فمهد لذلك برفع العبيد الأرقاء إلى مقام السادة الأحرار: إن بلالا الحبشي الأسود ليرقى ظهر الكعبة ويؤذن يوم الفتح, فيقول المشركون مستنكرين: "أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟! " فتنزل على قلب النبي آية تضع الموازين القسط للأشخاص والقيم والأشياء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3.
وعلى الصعيد الاجتماعي، أراد الإسلام أن يحفظ على هذه الأمة اعتدالها وتوازنها، وأن يجعلها وسطا في عقائدها وأخلاقها، وعباداتها، ومعاملاتها، فمهد لذلك بتصحيح مقاييسها ودعوتها إلى ما يحييها، فلما اتفقت جماعة من الصحابة على "أن يجبوا أنفسهم، ويعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحمًا ولا دسما، ويلبسوا المسوح، ولا يأكوا من الطعام إلا قوتا، ويسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان" أنزل الله لتقويم هذا الانحراف عن دواعي الفطرة قوله الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. ومن عجائب الإيحاء التعبيري في القرآن أن انحراف أولئك الصحابة شبه في الآية بالاعتداء والعدوان!.
أما الصعيد النفسي فيكاد القرآن فيه يخاطب كل نفس على حدة، متناولًا