لوعة الإنسان المحروم وفي إيمان الصديق الصفي: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1. وإن البيان لا يرقى هنا إلى وصف العذوبة التي تنتهي في فاصلة كل آية بيائها المشددة وتنوينها المحول عند الوقف ألفا لينة كأنها في الشعر ألف الإطلاق: فهذه الألف اللينة الرخية المنسابة تناسقت بها "شقيا-وليا-رضيا" مع عبد الله زكريا، ينادي ربه نداء خفيا!!
ولقد استشعرنا هذا الجو الغنائي كله ونحن نتصور نبيا يبتهل وحده في خلوة مع الله، وكدنا نصغي إلى ألحانه الخفية تصاعد في السماء، فكيف بنا لو تصورنا جماعة من الصديقين الصالحين وصفهم الله بأنهم من أولي الألباب "الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض" كيف بنا لو تصورنا هؤلاء يشتركون ذكرانا وإناثًا، شبانا وشيبا، بأصوات رخية متناسقة تصعد معا وتهبط معا وهي تجأر إلى الله وتنشد هذا النشيد الفخم الجليل: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 2.
إن في تكرار عبارة "ربنا" لما يلين القلب, ويبعث فيه نداوة الإيمان، وإن في الوقوف بالسكون على الراء المذلقة المسبوقة بهذه الألف اللينة لما يعين على الترخيم والترنيم, ويعوض في الأسماع أحلى ضربات الوتر على أعذب العيدان!