والفرقة الثانية هم (النفعيون) ويرى أهل هذا المذهب أن الواجب هو تحصيل المنفعة التي ينال بها أكبر عدد من أفراد البشر أوفر قسط من اللذة والهناء، ولا وزن للأفعال الخلقية في نظرهم إلا بما تأتي به المسرة لغالب بني النوع، ويرى هؤلاء أن السعادة هي أن تتوافر للناس بأعمالهم اللذات وتبعد عنهم الآلام.
ويرى القارئ ويلمس الروح المادي المتعشق للذة والهناء في آراء هذا المذهب ونزعاته من أحطها وأكثرها إسفافاً إلى أرقاها وأكثرها تحليقاً، وهذا يختلف عن طبائع الشرق وشرائع السماء اختلافاً بيناً. وقد أثرت هذه النزعة المادية في فلسفة الغرب وأخلاقه وأدابه وحضارته تأثيراً عميقاً، ولا تزال مهيمنة على الحياة الغربية وآدابها حتى اليوم.
ثم نزعوا دائماً في تشخيص المنفعة ووزنها إلى المادية لأنهم احتكموا فيها إلى أذهانهم وعقولهم، وقد أصبحت مادية بحتة، لأنها بحقيقة لا تأتي تحت الحس أو المساحة أو العد أو الوزن، ولا تؤمن بمنفعة لا تجلب لذة وهناء، حتى مؤسس هذا المذهب ((أبيقور م 271ق. م)) صرح بأن مناط الحكم على الأعمال هي المنفعة، وأن المنفعة لا قيمة لها إلا إذا اجتلبت لذة واغتباطاً، فكيف وقد تدرجت العقول والطبائع الغربية ومردت على النزوع المادي على تعاقب الأجيال والعصور؟! .
فكان نتيجة ذلك أن الذهن الغربي والمنطق العصري أصبحا عاجزين عن الاهتداء إلى منفعة غير محسوسة لا تجلب لذة واغتباطاً، وأصبح العقل الأوربي محامياً عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية، وبحسب ما يكتسب المجتمع بواسطتها من اللذة والهناء، والأفراد من الاغتباط والرخاء، فأصبح الربح المادي هو الميزان للأخلاق والفارق بين الشر والخير، وأصبحت الأخلاق التي لا وزن لها في ميزان المادة، ليس لها قيمة إلا القيمة الدينية أو الخلقية في المصطلح القديم ينتقص كل يوم سلطانها على القلوب والعقول، وتعدم أنصاراً وتصبح من شعائر القديم وذكريات العهد الماضي كحنان الأبوين وحبهما للأولاد، ووفاء الأزواج وحفظهن للغيب، وتحل محل هذه الأخلاق المقدرة الصناعية والاختراع والإنتاج والوطنية والجنسية ولا تزال ترتفع قيمتها ويرجع وزنها.