وطيب منبته ومتانة دينه ووفور علمه.
وكان الفقير في ذلك يبالغ كثيراً في إخفاء عسرته وضنك معيشته ويتحمل ويتجلد، ويسوءه أن يفطن أحد إلى فاقته ورقة حاله.
وكان ضمير الحر عزيزاً محترماً كدينه وعرضه، لا يساوم عليه ولا يباع بأي ثمن، وكان الواحد يفضل الموت الأحمر على كذبة أو خيانة يخلص بها نفسه من الموت.
وقد روى لنا التاريخ الهندي طرائف في هذا الباب لابد أن تكون أمثلتها متوافرة في تاريخ جميع البلاد الإسلامية: منها أن الشيخ رضي الله البداوني اتهم بالاشتراك في الثورة على الإنجليز عام 1857 وحوكم أمام حاكم إنجليزي كان من تلاميذه، فأوعز إليه الحاكم على لسان بعض الأصدقاء أن يجحد الاتهام فيطلقه. ولكن الشيخ أبى وقال: قد اشتركت في الخروج على الإنجليز فكيف أجحد؟ واضطر الحاكم فحكم عليه بالإعدام، ولما قدم للشنق بكى الحاكم وقال له: حتى في هذه الساعة لو قلت مرة: إن القضية مكذوبة عليَّ وإني بريء
لاجتهدت في تخليصك، فغضب الأستاذ وقال: أتريد أن أحبط عملي بالكذب على نفسي؟ لقد خسرت إذاً وضل عملي، بل قد اشتركت في الثورة فافعلوا ما بدا لكم، وشنق الرجل!!.
ولم يكن صدقهم واعترافهم بما يعملون ويعتقدون مقتصراً على ما يتصل بأنفسهم، بل كانوا صادقين فيما يتصل بالأمة والشعب، فلم يكونوا يعرفون العصبية الجنسية والوطنية والجنف القومي الذي أصبح اليوم من واجبات الجنسية والوطنية، وكانوا يعدون الكذب وشهادة الزور لأجل الأمة والوطن والملة رذيلة وإثماً كبيراً. وكانوا يعتقدون أن أحكام الشرع تعم الفرد والأمة والأمور الشخصية والاجتماعية وكانوا متمسكين بقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} الآية، وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ} وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} .