وكان البابوات يتمتعون في هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم لم يكن للملوك والأباطرة، وكان يمكن لهم أن يتقدموا بأوربا تقدماً صحيحاًَ في العلم والمدنية تحت ظل الدين، لأن نوابهم وممثليهم كانوا يتجولون في البلدان الأوربية وينزلون من أهلها في جناب مَربع وظل ظليل، ويتفاهمون معهم بلغة واحدة ويتدخلون في أمور سياسية مهمة، ووجدوا في كل بقعة أنصاراً لهم من ذوي الرأي والسياسة يتكلمون بلغة واحدة ويساعدونهم في مهمات الدولة.

شقاء أوربا برجال الدين:

ولكن رجال الدين من سوء حظ النصرانية ومن سوء حظ الأمم التي دانت بها أساؤوا استعمال هذا السلطان الهائل فاستغلوه لأنفسهم ونفوذهم وجاههم، وبقيت أوربا تتسكع في دياجير الجهل والخرافة والانحطاط، وأصيبت المدنية بحكمهم ورهبانيتهم في صميمها، فلم يتضاعف عدد سكان القارة الأوربية في ألف سنة، ولم يتضاعف عدد سكان إنكلترة في خمسمائة سنة. ولا شك أن من أسبابها حياة العزوبة التي كان القسوس والرهبان يزينونها للناس ويرغبون فيها، ولم يشأ الكهان والأساقفة أن يساهم الأطباء في مرافقهم وغلاتهم فانتشرت الأوبئة والأمراض في طول القارة وعرضها، وتعرف من رحلة أنبيس سلوئيس الذي اشتهر بعد بلقب (Pus the Second) التي قام بها في الجزائر البريطانية حوالي سنة 1430 م ما كانت عليه هذه الجزائر من بؤس وانحطاط في المدنية وفقر مدقع.

جناية رجال الدين على الكتب الدينية:

ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض؛ فإن العلم الإنساني متدرج مترق، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصرًا على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين، فإن ذلك، كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم الذي انهزم فيه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015