وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مَنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ، يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» ". وَفِي هَذَا الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَقَدْ دَلَّتْ كُلُّهَا عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ إِنْكَارَهُ بِالْقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ أَوَّلَ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكُمْ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ الْمَعْرُوفَ، وَيُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ نُكِّسَ، فَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِقَلْبِهِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ هَلَكَ، وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» ". وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا تَارَةً يُحْمَلُ عَلَيْهِ رَجَاءُ الثَّوَابِ، وَتَارَةً خَوْفُ الْعِقَابِ فِي تَرْكِهِ، وَتَارَةً الْغَضَبُ لِلَّهِ عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، وَتَارَةً النَّصِيحَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ، وَرَجَاءُ إِنْقَاذِهِمْ مِمَّا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَارَةً يُحْمَلُ عَلَيْهِ إِجْلَالُ اللَّهِ وَإِعْظَامُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ، وَأَنْ يُفْتَدَى مِنَ انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَأَنَّ لَحْمِي قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ.
فَمَنْ لَحَظَ مَا ذَكَرْنَاهُ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَاهُ مِنَ الْأَذَى فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا مَنْ كَانَتْ فِيهِ خِصَالٌ ثَلَاثٌ: رَفِيقٌ بِمَا يَأْمُرُ رَفِيقٌ بِمَا يَنْهَى، عَدْلٌ بِمَا يَأْمُرُ عَدْلٌ