وَبِقَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ، وَبِقَوْلِهِ {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] ، وَبُقُولَهُ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ ; لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ يَقْتَضِي النَّدَمَ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ". وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: هَذِهِ الْآيَاتُ لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَطْمَعَ لَمْ يَقْطَعْ مِنْ رَجَائِهِ الْمَطْمَعَ، وَمِنْ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِنَّ " عَسَى " مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ.
نَقَلَهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. وَقَدْ وَرَدَ جَزَاءُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِلَفْظِ " عَسَى " أَيْضًا، فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] الْآيَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَإِنَّ التَّائِبَ مِمَّنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
((تَنْبِيهَاتٌ))
الْأَوَّلُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ تَكَفِّرُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ، أَمْ لَا تُكَفِّرُ سِوَى الصَّغَائِرِ؟ فَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسَاجِدِ يُكَفِّرُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ تُكَفِّرُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ. خَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ. وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِهَا، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ ظَالِمًا فَقَالَ: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ، وَالْفَرَائِضُ لَا تُؤَدَّى إِلَّا بِنْيَةٍ وَقَصْدٍ، وَلَوْ وَقَعَتِ الْكَبَائِرُ مُكَفَّرَةً بِالْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، أَوْ أَدَاءِ بَقِيَّةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؛ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّوْبَةِ - وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كُفِّرَتِ الْكَبَائِرُ بِفِعْلِ الْفَرَائِضِ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ ذَنْبٌ يَدْخُلُ بِهِ النَّارَ إِذَا أَتَى بِالْفَرَائِضِ. قَالَ الْحَافِظُ