وَنَهَاهُ كَأَزْجَرَهُ فَانْزَجَرَ وَازْدَجَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالتَّحْتِيمِ فَيَكُونُ لِلْكَرَاهَةِ وَخِلَافِ الْأَوْلَى، وَتَرْكُهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ. فَتَكُونُ الطَّاعَةُ تَارَةً تَقَعُ عَنْ مَحَبَّةٍ وَشَوْقٍ، وَأُخْرَى عَنْ خَوْفٍ مَقْرُونٍ بِحُبٍّ، وَأَمَّا مَنْ أَتَى بِصُورَةِ الطَّاعَةِ خَوْفًا مُجَرَّدًا عَنِ الْحُبِّ، فَلَيْسَ بِمُطِيعٍ وَلَا عَابِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْمُكْرَهِ، أَوْ كَأَجِيرِ السُّوءِ الَّذِي إِنْ أُعْطِيَ عَمِلَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ كَفَرَ وَأَبَقَ، فَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ مَحَبَّةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ أَعْظَمُ مِنَ الطَّاعَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ رُؤْيَةِ الْإِنْعَامِ، وَالْإِفْضَالِ، وَالْإِحْسَانِ، فَإِنَّ الذَّوْقَ السَّلِيمَ يُدْرِكُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا تَعَلَّقَ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَيْنَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي جَنَّةٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ نَارٍ، وَإِنْ شَمَلَ النَّوْعَيْنِ اسْمُ الْمَحَبَّةِ ; لِأَنَّ مَنْ يُحِبُّكَ لِذَاتِكَ وَأَوْصَافِكَ وَجِمَالِكَ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّنْ يُحِبُّكَ لِخَيْرِكَ وَدِينَارِكَ. وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَى مُقْتَضِيَةٌ لِآثَارِهَا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالْأَمْرِ اقْتِضَاءَهَا لِآثَارِهَا مِنَ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، فَأَمْرُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَنَهْيُهُ هُوَ مُوجِبُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي الْعَالَمِ وَآثَارِهَا وَمُقْتَضَاهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَزَيَّنَ - تَعَالَى - بِطَاعَةٍ وَلَا يُشَانُ بِمَعْصِيَةٍ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: " «عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبَلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي» " الْحَدِيثَ، فَبَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ، لَا يَتَضَمَّنُ اسْتِجْلَابَ نَفْعِهِمْ وَلَا انْدِفَاعَ ضُرِّهِمْ، كَأَمْرِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَالْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَالْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ بِمَا يَنْفَعُ الْآمِرَ وَالْمَأْمُورَ بِهِ، وَنَهْيِهِمْ عَمَّا يَضُرُّ النَّاهِيَ، وَالْمَنْهِيَّ، بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ - الْمُنَزَّهُ عَنْ لُحُوقِ نَفْعِهِمْ وَضُرِّهِمْ بِهِ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهِمْ، وَبِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَغُفْرَانِ الزَّلَّاتِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لِاسْتِجْلَابِ مَنْفَعَةٍ وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ، فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَلَكِنْ لَهُ - سُبْحَانَهُ - فِي تَكْلِيفِ عِبَادِهِ وَأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ مِنَ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ مَا يَقْتَضِيهِ مُلْكُهُ التَّامُّ وَحَمْدُهُ وَحِكْمَتُهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ مِنْ عِبَادِهِ شُكْرَ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَمِنَنِهِ الَّتِي لَا تُسْتَقْصَى بِحَسَبِ قُوَاهُمْ وَطَاقَتِهِمْ، لَا بِحَسَبِ مَا يَنْبَغِي لَهُ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ خَلْقُهُ عَلَيْهِ؛ لَكَانَ كَافِيًا. فَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَلَا أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ مِنْهُ، فَهَذَانَ مَسْلَكَانِ آخَرَانِ فِي التَّكْلِيفِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ