كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ حَادِثٌ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَادِثِ الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ.
قَالُوا: فَالْقَوْلُ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْمَفْعُولِ يُوجِبُ إِمَّا التَّسَلْسُلَ وَإِمَّا التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَحِّجٍ، ثُمَّ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً لِلْفِعْلِ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا الْفَاعِلَةُ، لَكِنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لَهُ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ، وَيُثْبِتُونَ لِفِعْلِهِ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ، وَيَقُولُونَ مَعَ هَذَا: لَيْسَ لَهُ إِرَادَةٌ، بَلْ هُوَ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ، لَا فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ. وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَحَالِّهَا، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي كِتَابِهِ (حُسْنِ الْإِرَادَةِ) : هَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ وَأَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ حَدَثَ بِغَيْرِ إِحْدَاثِ مُحْدِثٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بُطْلَانَ هَذَا بَيِّنٌ - وَأَطَالَ فِي رَدِّ ذَلِكَ، وَمِمَّا ذَكَرَ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: حُدُوثُ حَادِثٍ بَعْدَ حَادِثٍ بِلَا نِهَايَةٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فِي الْعَقْلِ، أَوْ مُمْتَنِعًا، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا لَزِمَ أَنَّ الْحَوَادِثَ جَمِيعَهَا لَهَا أَوَّلٌ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْحَقِّ، وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ بِقِدَمِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - كَالسَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ مَوْقُوفٌ عَلَى حَوَادِثَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِيمَا يَحْدُثَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالنَّبَاتِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْمَطَرِ، وَالسَّحَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ فَسَادُ حُجَّتِكُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، ثُمَّ يُقَالُ إِمَّا أَنْ تُثْبِتُوا لِمُبْدِعِ الْعَالَمِ حِكْمَةً وَغَايَةً مَطْلُوبَةً، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تُثْبِتُوا بَطَلَ قَوْلُكُمْ بِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ وَبَطَلَ مَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ حِكْمَةِ الْبَارِي تَعَالَى فِي خَلْقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَيْضًا فَالْوُجُودُ يُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْوُجُودِ أَمْرٌ يَفُوتُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ، كَإِحْدَاثِهِ سُبْحَانَهُ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقْتَ حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ كَإِحْدَاثِ الْمَطَرِ وَقْتَ الشِّتَاءِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَإِحْدَاثِهِ لِلْإِنْسَانِ الْآلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ - كَثِيرٌ جِدًّا. وَإِنْ أَثْبَتُّمْ لَهُ تَعَالَى حِكْمَةً مَطْلُوبَةً وَهِيَ بِاصْطِلَاحِكُمُ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ لَزِمَ أَنْ تُثْبِتُوا لَهُ الْمَشِيئَةَ، وَالْإِرَادَةَ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْفَاعِلَ فَعَلَ كَذَا لِحِكْمَةِ كَذَا بِدُونِ كَوْنِهِ مُرِيدًا لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ تَنَاقُضًا، وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالَمُ، وَالْعِلْمَ هُوَ الْإِرَادَةُ، وَالْإِرَادَةَ هِيَ الْقُدْرَةُ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. وَالتَّقْدِيرُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَعَلَ الْمَفْعُولَاتِ، وَأَمَرَ بِالْمَأْمُورَاتِ لِحِكْمَةٍ