قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] أي: خاف القيام بين يديه؛ لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله عز وجل بذنوبه، ويقول: عملت كذا وعملت كذا، كما جاء في الحديث الصحيح، فإذا أقر قال الله له: (قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) هذا الذي خاف هذا المقام {وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى} [النازعات:40] أي: عن هواها، والنفس أمارة بالسوء، لا تأمر إلا بالشر، ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي النفس المطمئنة؛ لأن للإنسان ثلاثة أنفس: مطمئنة، وأمارة، ولوامة، وكلها في القرآن.
أما المطمئنة: ففي قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30] .
وأما الأمارة بالسوء: ففي قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53] .
وأما اللوامة: ففي قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2] .
والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس، يرى في نفسه أحياناً نزعة خير يحب الخير ويفعله، هذه هي النفس المطمئنة، ويرى أحياناً في نفسه نزعة شر فيفعله، هذه هي النفس الأمارة بالسوء.
تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل، فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لوامة أخرى تلومه على ما فعل من الخير -والعياذ بالله- فإن من الناس من يلوم نفسه على فعل الخير، وعلى مصاحبة أهل الخير، ويقول: كيف أصحب هؤلاء الذين يصدوني عن حياتي وشهواتي وعن الهوى وما أشبه ذلك.
فاللوامة نفس تلوم الأمارة بالسوء، وتلوم المطمئنة تارة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نفسين، تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء وتُنَدِّم الإنسان، وقد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير -نسأل الله العافية- يقول الله عز وجل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] هكذا جاء في القرآن وجاء في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) .
هذه الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت كيف ذلك؟ إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفس للخروج وقالت: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله، وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل:32] متى يقولون؟ حين الوفاة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] فيبشر بالجنة، فتخرج روحه راضية متيسرة سهلة، ولهذا لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت، قال: ليس الأمر كذلك) كلنا يكره الموت هذه طبيعة، ولكن المؤمن إذا بشر بما يبشر به عند الموت أحب لقاء الله، أحب الموت، وسهل عليه، وأن الكافر إذا بشر بما يسوءه -والعياذ بالله- عند الموت كره لقاء الله وهربت نفسه، وتفرقت في جسده، حتى ينتزعها منه كما ينتزع السفود من الشعر المبلول، والشعر المبلول إذا جر عليه السفود -وهو معروف عند الغزَّالين- يكاد يمزقه من شدة سحبه عليه.
هكذا روح الكافر -والعياذ بالله- تتفرق في جسده؛ لأنها تبشر بالعذاب فتخاف، ولهذا يوجد بعض الناس -والعياذ بالله- يسود وجهه، ولونه في الحياة أحمر، وحدثني من أثق به -وأقسم لي أكثر من مرة- وهو ممن يباشرون تغسيل الموتى، يقول: والله مرت عليّ حالتان لا أنساهما أبداً، غسلت اثنين بينهما زمن، يقول: الوجه أسود مثل الفحم -والعياذ بالله- والبدن طبيعي؛ لأنه يبشر بما يسوءه، والإنسان إذا بشر بما يسوءه تغير.
فالجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقلت: إن الإنسان قد يدركها قبل أن يموت بما يبشر به، ولا يخفى علينا ما جاء في السيرة النبوية أن أنس بن النضر رضي الله عنه قال: (والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد) وهذا ليس معناه الوجدان الذوقي، إنما هو وجدان حقيقي -كما أشار إليه ابن القيم رحمه الله من أن بعض الناس قد يدرك الآخرة وهو في الدنيا- ثم انطلق أنس فقاتل وقتل رضي الله عنه، فالحاصل أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.