قال الله عز وجل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] (أحصاه) بمعنى: ضبطه مأخوذ من الحصى، لأن العرب كانوا في الجاهلية لا يقرءون ولا يكتبون، فيضبطون الأشياء بالحصى، يعدوها بالحصى، وعلى هذا جاء قول الشاعر:
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
يعني: أنهم في الجاهلية إذا أرادوا أن يعدوا قومهم عدوهم بالحصى، فيأخذ حصى بعدد القوم ثم يضعه في كيس أو إناء حتى إذا شاء أن يستعيد العدد وإذا هو موجود، الحصى موجود، فأصل (أحصاه الله) يعني: ضبطه وهو مأخوذ من الحصى لأن الناس في الجاهلية إنما يحصون الأعداد بالحصى، (أحصاه الله ونسوه) بماذا أحصاه؟ أحصاه عز وجل بعلمه وأحصاه بواسطة رسله الذين يكتبون، كما قال عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] يعني: نسمع السر والنجوى والرسل حاضرة يكتبون.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6] هذه الجملة تأكيد لما سبق من حيث المعنى، يعني أن الله شهيد على كل شيء سواء كان فعلاً أو قولاً أو إضماراً في القلب، كل ذلك فالله شهيد عليه، والمقصود من هذا: بيان إحاطة علم الله عز وجل، ثم التحذير من المخالفة، لأن الإنسان إذا علم بأن الله على كل شيء شهيد ماذا يحصل؟ يحذر ويكف عن المعاصي ويقوم بالواجبات، اقرءوا القرآن وأنتم تعرفون معناه، ليس المراد مجرد الإخبار بأن الله شهيد على كل شيء، هذا المراد لا شك لكن ليس هو المراد فقط، المراد أن تحذر من أن يشهد الله عليك بشيء لا يرضاه عز وجل، انتبه لهذه النقطة، فأكثر الناس يقرءون ولا يفهمون، لا بد أن نفهم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265] {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6] {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:64] وما أشبه ذلك المقصود منها ماذا؟ أن نعرف هذه الصفة لله عز وجل فقط، أم أن نتعبد لله بمقتضاها؟
صلى الله عليه وسلم الثاني مع الأول، يا أخي! إذا عرفت أن الله بكل شيء عليم هل تخالف الله؟ لا تخالفه لا في السر ولا في العلانية، إذا علمت بأنه على كل شيء شهيد، وأنه سينبئك بما عملت، ستخشى، والله! ستخشى، لأنك سوف تلاقي ربك عن قريب {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] الفاء تدل على قرب الشيء، تفيد الترتيب والتعقيب، فملاقيه عن قرب، وما أقرب الآخرة من الدنيا، أحسن ما خلفت وراءك من الزمن كأنه لحظة، المستقبل كذلك سيمر بك كأنه لحظة، وإذا بك على الباب قد لاقيت ربك، احذر يا أخي! لا تغرنك الدنيا، ولا يغرنك بالله الغرور، الدنيا زائلة، كم من إنسان خطف شبابه وهو في غاية ما يكون من الفرح والمرح وفارق الدنيا، وكم من كهل قد استوى على الدنيا وحاز من الأموال والجاه والشرف ما لم يجز عليه أمثاله؛ وإذا هو يدس في التراب، أليست هذه هي الحقيقة؟ ثم ما وراء ذلك؟ وراء ذلك اليوم الموعود الشاهد والمشهود، الأهوال والأفزاع {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل:17-18] اللهم أحي قلوبنا بالموعظة يا رب العالمين.
إخواني! الدنيا ليست دار قرار، ما هي دار القرار؟ الآخرة، ولهذا قال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] أكثر الناس الآن جعلوا الدنيا هي القرار ونسوا الآخرة، ولهذا قال في نفس الآية: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] لما مر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوم يعدون التسبيح بالحصى قال لهم: [مهلاً! ما من عمل صالح تعملونه إلا وقد أحصاه الله -لا حاجة لأن تضعوا الحصى- لكن أحصوا أعمالكم السيئة لتتوبوا منها] وهذا من فقهه رضي الله عنه.
أنت لا تحصي أنك سبحت ثمانين أو ألف أو ألفين أو صليت على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، لا، هذا معلوم مكتوب لا يضيع، لكن أحصِ العمل السيئ ماذا عملت من العمل السيئ حتى تتوب إلى الله وترجع منه؟ نعم الذكر المحدود بعدد حدده مثل: التسبيح خلف الصلوات، (من قال: سبحان الله، مائة مرة.
) (إني لأستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة) وما أشبه ذلك.
المحدد حدده غير المحدد لا تحدد، لا يضيع شيء، إنك إذا حددت ثم فخرت وقلت: إني صليت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مليون مرة، المعنى أنك مننت على الرسول، أو قلت: إني ذكرت الله ألف مرة، المعنى أنك مننت على الله.
لا تحدد إلا ما حدده الشرع والباقي أطلقه، اذكر الله ذكراً كثيرا، صل على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، وكل شيء محصى.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاتعاظ في الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية والمخلوقات العظيمة.