قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25] هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات حسب قواعد اللغة العربية: المؤكد الأول: القسم المقدر.
المؤكد الثاني: اللام.
المؤكد الثالث: قد.
لأن تقدير اللام: والله! لقد أرسلنا رسلنا بالبينات.
والتوكيد هنا ليس منصبَّاً على إرسال الرسل؛ لأن إرسال الرسل معلوم: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] لكنه منصبٌّ على قوله: (بالبينات) أي: أن الرسل جاءوا بالبينات، والبينات صفة لموصوف محذوف، والتقدير: بالآيات البينات.
أي: العلامات البينة الدالة على صدق رسالتهم وصحتها، فإن الله تعالى ما بعث نبياً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهذا من الحكمة والرحمة.
أما كونه من الحكمة فلأنه ليس من الحكمة أن يأتي رجل من بني آدم ويقول للناس: أنا رسول الله إليكم بدون آية وبدون بينة.
وأما من الرحمة فلأن الناس لو كلفوا بالإيمان برسل الله دون بينات معهم لكان في ذلك مشقة عظيمة، فمن رحمة الله أن الله أيد الرسل بالآيات البينات الظاهرة.
قال العلماء: والله تعالى من حكمته ورحمته جعل لكل نبي من الآيات ما يتبين به رسالته، وقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام أتى بآيات بينات تعجز عنها السحرة مع قوة علم السحرة وانتشار السحر، لكن عجزوا أن يأتوا بمثل ما جاء به، ولا يخفى أن موسى عليه الصلاة والسلام كان معه عصا إذا ألقاها صارت حية، وإذا حملها صارت عصاً يهش بها على غنمه، ويتوكأ عليها، وله فيها حاجات أخرى.
عيسى عليه السلام قالوا: إنه انتشر في وقته الطب وارتقى ارتقاءً بالغاً، فأتى بآية يعجز عنها الأطباء، ألا وهي: إحياء الموتى وإخراجهم من القبور، إبراء الأكمه والأبرص، وهذا يعجز عنه الطب.
أما محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه أتى في زمن فشت فيه البلاغة باللسان العربي، وارتقت إلى أعلى مستوياتها البشرية فأنزل الله تعالى عليه هذا القرآن الذي أعجز هؤلاء العرب الفصحاء أن يأتوا بمثله، وتحدوا عدة مرات، فمرة قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ومعنى (ظهيراً) أي: معاوناً.
وقال عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] وقال عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] وقال عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:33-34] أي حديث، وعجزوا عن ذلك.
فالمهم أن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جاءوا بالآيات البينات حتى لا يبقى للناس عذر.