ثم قال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19] .
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء.
أولاً: الإيمان بوجوده.
والثاني: الإيمان بربوبيته.
والثالث: الإيمان بألوهيته.
والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته.
الأول: الإيمان بوجود الله لا ينكره إلا مكابر في الواقع، لا ينكره أحدٌ من قلبه إطلاقاً؛ لأن كل إنسان يعرف أن هذا الكون المستقر المنظم لا بد له من موجد ومنظم من الموجد والمنظم؟ الله عز وجل، لأن كل إنسان يعلم أنه لا يستطيع أحدٌ من البشر أن يتصرف في هذا الكون، من الذي يأتي بالليل مع وجود النهار؟ من الذي يأتي بالنهار مع وجود الليل؟ لا أحد يقدر.
إذاً كل إنسان عاقل فهو مؤمن بقلبه وإن أنكر بلسانه فهو مؤمن بوجود الله عز وجل، ووجه ذلك: أن هذه الخليقة العظيمة لا بد لها من مدبر.
لو قال قائل: إنها جاءت هكذا صدفة؟ لقلنا: من جاء بها؟ ثم الشيء إذا جاء صدفة لا يكون منظماً.
- لو قال قائل: هي أوجدت نفسها؟ نقول: هذا أيضاً محال عقلاً! كيف توجد نفسها وهي عدم؟! هذا لا يمكن، إذاً: لا بد لها من موجد، ولهذا قال الله تعالى في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] ما الجواب؟ بل أنت يا ربنا ونحن لا نقدر أن نخلق، الإنسان لا يقدر أن يخلق جنيناً في بطن أمه أبداً، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] استمع {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:73] خطاب للناس كلهم الكافر والمؤمن {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] ولهذا إذا قرأت الآية يجب أن تستمع {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج:73] كلهم.
{لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] هذا الذباب المهين لا يمكن أن يخلقوه ولو اجتمعوا له، كل المعبودات لا يمكن أن تخلق ذبابة، وهو من أصغر الحيوانات وأذلها وأهشها، وزد على هذا {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] أي: لو أن الذباب أخذ من هذه الأصنام شيئاً ما استطاعت أن تستنقذه منهم.
قال أهل العلم: المعنى لو وقع الذباب على أحد هذه الأصنام وامتص من الطيب الذي فيها -لأنهم يطيبون أصنامها- ما استطاعت الأصنام أن تستنقذه {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] .
أقول مرة ثانية: لا يمكن لأحد أن ينكر من صميم قلبه وجود الله عز وجل أبداً، لأنه باتفاق العقلاء أن كل حادث لا بد له من محدث، ولا أحد يحدث هذا الكون إلا الله عز وجل.
الثاني: الإيمان بربوبيته، أي: بأنه وحده الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، هو الله وحده، هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للكون إلا الله، ولا مالك للكون إلا الله عز وجل حتى ملك الإنسان ما في يده ليس ملكاً حقيقياً، والدليل: أنه لا يمكن أن يتصرف فيما في يده كما يشاء، الآن هذا قلمي ملك لي، لكن ليس لي أن أتصرف فيه كما أشاء، لو أردت أن أحرقه أو أكسره منعت، شرعاً حرام علي؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن إضاعة المال.
إذاً ملك الإنسان لما في يده ليس ملكاً حقيقياً، بل إنه يختص به عن غيره فقط.
الثالث: أنه وحده المنفرد بتدبير الأمور ولا أحد يستطيع أن يدبر الأمور أبداً، فالألوهية هي أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، ليس في الكون شيء يعبد بحق إلا الله عز وجل أبداً، عبادة الأصنام حق أم غير حق؟ غير حق، الأصنام نفسها تسمى آلهة فهل هي إله حق؟ لا، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] إذاً الألوهية: أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود حق إلا الله عز وجل، وما عبد من دونه فهو باطل، وعليه فلا تصرف العبادة إلا لله.
الرابع: الإيمان بالأسماء والصفات.
هل لله أسماء؟ نعم، هل له صفات؟ نعم، أسماؤه حسنى، قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] وصفاته كذلك عليا، ليس هناك صفة نقص، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل:60] أي: الوصف الأعلى.
إذاً علينا أن نؤمن بأسماء الله وعلينا أن نؤمن بصفات الله.
أسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها مهما أردت، ولا يمكن أن تحصيها، والدليل: حديث عبد الله بن مسعود (ما من إنسان يصيبه هم أو غم أو حزن ثم يقول: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمه أحداً من خلقه، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فجعل الله الأسماء ثلاثة أقسام: ما أنزله في كتابه مثل: الرحمن.
أو علمته أحداً من خلقك، مثل: الرب.
الشافي، هذه ليست في القرآن لكن جاءت في السنة، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) وقال عليه الصلاة والسلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب) هذا أنزله في كتابه أو علمه أحداً من خلقه؟ الثاني.
القسم الثالث: ما استأثر الله به في علم الغيب -استأثر بمعنى انفرد- لكن ما انفرد الله بعلمه فلم ينزله في الكتاب ولم يعلمه أحداً من الخلق، هل يمكن الإحاطة به؟ لا يمكن، إذاً أسماء الله لا يمكن الإحاطة بها أو حصرها بعدد لأننا لا نعلمها، وأما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فالمعنى أن من الأسماء تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، ومن أحصاها أي: عرفها لفظاً وعرفها معنى، وتعبد لله بمقتضاها، وليس المراد أن تحفظها فقط، لا، بل لا بد من حفظ اللفظ، والثاني: فهم المعنى، والثالث: التعبد لله بها وبمقتضاها، فمثلاً: إذا علمت أن الله سبحانه وتعالى غفور تعرض للمغفرة، لا تقل: الله غفور وتفعل الذنب كل ما شئت، تعرض للمغفرة واستغفر الله، تجد الله غفوراً رحيماً، إذا علمت أن الله عزيز تتعبد لله بمقتضى هذا وتخاف منه وتحذر وهلم جراً.