قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7] الذين آمنوا بمن؟! بالله ورسوله؛ لأنه قال: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه) وأنفقوا أي: مما جعلهم مستخلفين فيه لهم أجر كبير, والآيات كما تعلمون لهم أجر كبير, ولهم أجر عظيم {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] فوصف الله الأجور على العمل بهذه الأوصاف كبير, وعظيم, وكثير؛ أما الكثير نأخذه من قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وبهذا تعرف منة الله عز وجل علينا والحمد لله, يأمرنا بالعمل ونعمل به ويأجرنا عليه أجراً كثيراً, أجراً عظيماً, أجراً كبيراً, منة عظيمة كبيرة, فعلينا أن نشكر الله, وأن ننفق مما جعلنا مستخلفين فيه.
وهل ننفق كل ما نملك أم بعضه؟ (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ) (من) هذه هل هي للتبعيض أم هي لبيان ما ينفق منه؟ إذا كانت للتبعيض فالمعنى أنفقوا بعض ما جاءكم، ليس كله, وإذا جعلناها للبيان فالمعنى أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه حسب ما تقتضيه المصلحة، إما الكل وإما البعض, فأيهما أحسن، أن نجعل من للتبعيض أم نجعل من للبيان؟ الثاني, إذا جعلناها للبيان صار الإنسان مخيراً أي: ينفق كل ماله أو بعض ماله أكثره أو أقله حسب ما تقتضيه المصلحة.
ومعلوم أنه كلما كان المعنى أوسع كان أولى بالأخذ به, والقرآن الكريم العظيم معانيه واسعة عظيمة, ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم مرة على الصدقة وكان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون إلى الخير, كل واحد يحب أن يكون هو السابق, فقال عمر رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر؛ لأن هذين الرجلين هما أخص الصحابة بالرسول عليه الصلاة والسلام, وأحب الصحابة إلى الرسول.
إن النبي صلى الله عليه وسلم، يحب أبا بكر رضي الله عنه أشد من حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه, مع أن علي بن أبي طالب ابن عمه وزوج ابنته, لكن أبا بكر يحبه أشد وأكثر, فقد سئل: (من أحب الناس إليك؟ قال: أبو بكر) وهذا كلامه, وكلامه صدق ولا شك في ذلك, يقول: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر) .
المهم أن عمر كان هو وأبو بكر كفرسي رهان, يحب أن يسبقه, لا حسد لـ أبي بكر ولكن حباً للفضل لنفسه, قال: اليوم أسبق أبا بكر فجاء بنصف ماله لينفقه, أتى به للنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا عمر ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الشطر أي النصف-) وجاء أبو بكر قال: (ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله) أي أنفق كل ماله, فقال عمر: والله لا أسابقك على شيء بعدها أبداً, عرف أنه يعجز أن يسبق أبا بكر.
الشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر تصدق بجميع ماله, فإذا رأى الإنسان المصلحة في التصدق بجميع ماله وأن عنده من قوة التوكل, والاعتماد على الله, واكتساب الرزق، ما يمكنه أن يسترد شيئاً من المال لأهله ونفسه حينئذٍ نقول: تصدق بجميع مالك, إذا كان الأمر بالعكس.
كان رجلاً أخرق لا يعرف أن يكتسب, وليس هناك داعٍ أن ينفق كثيراً, فهنا نقول: الأولى أن تنفق بعض المال.
إذاً: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ) هل (من) للتبعيض أو للبيان؟ للبيان, أي: أنفقوا من هذا المال ما يكون فيه المصلحة, في هذه الآية دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحقق إيمانه ويثبته, وكلما رأى فيه تزعزعاً استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ومضى في سبيله, وأن ينفق من المال.
وهنا سؤال: هل المال محبوب للنفوس؟ نعم, قال الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] وقال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي: المال؛ لا يمكن أن يبذل الإنسان شيئاً محبوباً إليه، إلا لما هو أحب, فإذا بذل الإنسان المحبوب إليه ابتغاء رضوان الله, علمنا أن الرجل يحب رضوان الله أكثر من محبة المال, وبذلك يتحقق الإيمان.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من ذوي العلم الراسخ, والإيمان الثابت, إنه على كل شيء قدير.