الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء التاسع والتسعون بعد المائة من اللقاءات التي تسمى (لقاء الباب المفتوح) التي تتم كل يوم خميس، وهذا الخميس هو السادس عشر من شهر ذي القعدة عام (1419هـ) .
نبتدئ هذا اللقاء بالكلام عن صفة الحج والعمرة؛ لأن اللقاء السابق كان الكلام عن شروط وجوب الحج، أما هذا اللقاء فسنخصصه عن صفة الحج والعمرة.
إذا وصل الإنسان إلى الميقات فإنه مخير بين ثلاثة أنساك: التمتع، والقران، والإفراد.
التمتع: هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، فإذا كان اليوم الثامن أحرم بالحج وسبق الكلام على العمرة.
القران: أن يحرم بالحج والعمرة جميعاً، فمن حين أن يحرم من الميقات يقول: لبيك عمرة وحجاً.
والإفراد: أن يحرم بالحج وحده، فيقول عند الميقات: لبيك حجاً.
والقارن والمفرد سواء في الأفعال: يحرم من الميقات ولا يحل إلا يوم العيد، لكن يختلف كل شخص عن الآخر بأن القارن يحصل له حجٌ وعمرة والمفرد ليس له إلا حج، والقارن عليه هدي، والمفرد ليس عليه هدي.
نتكلم الآن عن الحج: إذا كان يوم الثامن أحرم الإنسان بالحج من مكانه الذي هو فيه، إن كان في مكة فمن مكة، وإن كان في منى فمن منى، وإن كان في أي مكان يحرم من مكانه، ويغتسل ويتطيب ويلبس ثياب الإحرام كما فعل في العمرة، لكنه يقول: لبيك حجاً.
فإذا أحرم من المكان الذي هو فيه، خرج إلى منى، فنزل فيها من ضحى اليوم الثامن وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، قصراً بلا جمع، فإذا طلعت الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة ارتحل إلى عرفة، فينزل بمكان يقال له: نمرة، إن تيسر له هذا إلى أن تزول الشمس، فإن لم يتيسر فليستمر في سيره إلى عرفة فينزل في مكانه، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذانٍ واحد وإقامتين، وينبغي أن يصلي مع الإمام في مسجد نمرة إن تيسر، فإن لم يتيسر فليستمع إلى الخطبة، والاستماع إلى الخطبة في وقتنا الحاضر سهل والحمد لله، ما عليه إلا أن يفتح الراديو ويستمع إلى الخطبة كأنما هو تحت المنبر، فإذا فرغ الإمام من الخطبة وهو في خيمته أذن لصلاة الظهر ثم صلى الظهر ركعتين ثم العصر ركعتين، وبعد هذا يتفرغ للدعاء والذكر وقراءة القرآن، ومن المعلوم أن الإنسان يحتاج إلى أكل فليأكل، وينوِ بأكله هذا التقوي على الذكر والطاعة، فيكون هذا الأكل قربةً إلى الله عز وجل، ثم ربما يحتاج إلى النوم أيضاً؛ لأن النفوس الآن ضعيفة والهمة ضعيفة ربما لا يتمكن أن يبقى يدعو إلى غروب الشمس، فلينم ولا حرج، وينوي بنومه نفض التعب السابق وتجديد القوة للاحق، فيستعين بهذا النوم على الذكر والدعاء، ثم في آخر النهار لا يشغله إلا بالدعاء والذكر، ربما يمل الإنسان -أيضاً- من الذكر أو الدعاء، فليتخذ طريقة تيسر عليه الأمر، ليأخذ المصحف ويقرأ، فإذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية وعيد تعوذ، وإذا مر بآية تسبيح سبح، والقرآن كله إما وعيد أو وعد أو تسبيح أو أحكام، فهذا مما يعينه على الذكر والدعاء في هذا الوقت فليفعل هذا، لا على أساس أنه يتقرب إلى الله تعالى بالقرآن في هذا الوقت، لا.
إنما على أساس أن يستعين به على الذكر والدعاء حتى تغرب الشمس، وليجتهد في الدعاء والإلحاح على الله عز وجل في هذا اليوم؛ فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقف رافعاً يديه متجهاً إلى القبلة حتى غابت الشمس.
فإذا غابت الشمس دفع إلى مزدلفة ملبياً، فإذا وصلها نزل فيها وصلى المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، في أي الصلاتين القصر؟ العشاء، فالمغرب لا تقصر، فيصليهما جمعاً، ويبيت هناك، ولا يحيي هذه الليلة بصلاة ولا قرآن ولا ذكر، بل السنة أن ينام ليعطي نفسه راحتها؛ لأنه تعب فيما سبق وسيتعب فيما يلحق، فيعطي نفسه الراحة، فإذا طلع الفجر صلى الفجر مبكراً، في هذه الليلة يصلي الوتر مع العشاء، أو إذا قدر له أن من عادته أن يقوم في آخر الليل أخرها إلى آخر الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يدع الوتر حضراً ولا سفراً، وإن كان الوتر لم يذكر في حديث جابر رضي الله عنه، لكن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع ما دام عندنا قاعدة من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام: أنه لا يدع الوتر حضراً ولا سفراً يدخل في هذه الليلة، فإذا طلع الفجر أذن وصلى سنة الفجر ثم صلى صلاة الفجر، ثم يبقى في مكانه يدعو الله تبارك وتعالى إلى أن يسفر جداً حتى يتبين الإسفار بياناً واضحاً، إن تيسر أن يقوم عند المشعر فهذا المطلوب وإلا في مكانه، ثم يدفع من مزدلفة متجهاً إلى منى، ولا يقف إلا عند جمرة العقبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما دفع من مزدلفة لم يحط رحله حتى رمى جمرة العقبة، فيبدأ أول شيء برمي جمرة العقبة.
قال أهل العلم: ورمي جمرة العقبة بالنسبة لـ منى كصلاة الركعتين بالنسبة لداخل المسجد، ولهذا يسمونها تحية منى، يرمي بها سبع حصيات، يكبر مع كل حصاة كلما رمى قال: الله أكبر، وإن شاء كبر مع الرمي وإن شاء كبر قبل الرمي ثم رمى، الأمر في هذا واسع، المهم أنه يكبر مع كل حصاة.
ومن أين يأخذ الحصى؟ يأخذها من أي مكان كان، ولا يسن أن يقصد أخذها من مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأخذها من مزدلفة ولا أمر بأخذها من مزدلفة، يأخذها من حيث شاء، إما من طريقه وهو ذاهب إلى الجمرة، أو من عند الجمرة، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله في منسكه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر ابن عباس أن يلقط له الحصى وهو واقفٌ عند جمرة العقبة.
وأما استحباب أخذ الحصى من مزدلفة فليس عليه دليل، إلا أن بعض السلف قال: ينبغي أن يأخذ من مزدلفة من أجل ألا يحبسه حابس عن بدء الرمي من حين يصل إلى منى -أي: أنه قد لا يتهيأ للإنسان أن يحصل على الحصى من حين أن يصل إلى منى - ولكنه ليس بسنة، فيرمي جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف فيذبح الهدي، ثم يحلق رأسه ويلبس الثياب ويتطيب، ويحل له كل شيءٍ من محظورات الإحرام إلا النساء.
ثم ينزل إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة ويسعى سعي الحج، وطواف الإفاضة هو طواف الحج وهو ركن في الحج، وإذا طاف وسعى بعد فعل ما سبق حلَّ له كل شيء حتى النساء.
أين يصلي الظهر؟ إن تيسر أن يصلي في مكة بعد أن يطوف ويسعى فهذا خير، وإن لم يتيسر صلى في أي مكان؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (جعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً) ثم يرجع إلى منى ويبيت بها ليلة الحادي عشر، فإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر رمى الجمرات الثلاث: الأولى والوسطى والعقبة، يرمي الأولى بسبع حصياتٍ متعاقباتٍ يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً حتى لا يصيبه الحصى ويتأذى بالزحام ويقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو الله تعالى دعاءً طويلاً، ثم يرمي الوسطى كالأولى ويقف بعدها فيدعو، ثم يرمي العقبة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة في الجميع ولا يقف بعدها ينصرف إلى رحله، ويبيت ليلة الثاني عشر، فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني عشر رمى الجمرات الثلاث كما رماها في اليوم الذي قبله، ثم إن شاء تعجل وخرج من منى، وإن شاء بقي إلى اليوم الثالث فيبيت في منى ليلة الثالث عشر ويرمي الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزوال كما رماها في اليومين قبلهما.
وبهذا تم الحج، فإذا أراد أن يرجع إلى بلده لا بد أن يطوف للوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون آخر عهد الإنسان الطواف بالبيت، فيطوف للوداع ولا يمكث بعده بل ينصرف إلى بلده، هذه خلاصة صفة الحج.