ثم قال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن:29] (يسأله) أي: يسأل الله (من في السماوات والأرض) الذي في السماوات هم الملائكة يسألون الله عز وجل، ومن سؤالهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا، يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] إلى آخره، ويسألهم من في الأرض من الخلائق، وسؤال أهل الأرض لله عز وجل على قسمين: القسم الأول: دعاء بلسان المقال، وهذا إنما يكون من المؤمنين، فالمؤمن يسأل ربه دائماً حاجاته؛ لأنه يعلم أنه لا يقضيها إلا الله عز وجل، وسؤال المؤمن ربه عبادة، سواءً حصل مقصودك أم لم يحصل، فإذا قلت: يا رب! أعطني كذا، فهذه عبادة، كما جاء في الحديث: (الدعاء عبادة) وقال تعالى شاهداً لهذا الحديث: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فقال: (ادعوني) ثم قال: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) وهذا دليل على أن الدعاء عبادة، هذا دعاءٌ بلسان المقال.
القسم الثاني: دعاءٌ بلسان الحال، وهو أن كل مخلوق مفتقر إلى الله، ينظر إلى رحمته، فالكفار مثلاً ينظرون إلى الغيث النازل من السماء، وإلى نبات الأرض، وإلى صحة الحيوان، وإلى كافة الأرزاق، وهم يعلمون أنهم لا يستطيعون أن يوجبوا ذلك في أنفسهم، فهم إذاً يسألون الله بلسان الحال، وذلك إذا مستهم الضراء واضطروا إلى سؤال الله بلسان المقال، سألوا الله بلسان المقال، {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32] إذاً: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن:29] من الذي في السماوات؟ الملائكة، وضربنا لكم مثلاً من أسئلتهم، من في الأرض؟ الإنس والجن، والسؤال -أي: سؤال أهل الأرض- ينقسم إلى قسمين: بلسان المقال، ولسان الحال.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ومن يحصي الأيام؟ لا أحد إلا الله عز وجل، ومن يحصي الشئون التي تقع في الأيام؟ لا أحد إلا الله عز وجل.
(كل يوم هو في شأن) يغني فقيراً ويفقر غنياً، يمرض صحيحاً ويشفي سقيماً، يؤمن خائفاً ويخوف آمناً وهلم جراً، كل يوم يفعل الله تعالى ذلك، وهذه الشئون التي تتبدل هل هي عبث، أو عن حكمة؟ عن حكمة لا شك، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] ، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36] فنحن نؤمن أن الله لا يقدر قدراً إلا لحكمة، لكن قد نعلم هذه الحكمة وقد لا نعلمها، ولهذا قال: (كل يومٍ هو في شأن) .
ولكن اعلم أيها المؤمن: أن الله تعالى لا يقدر لك قدراً إلا كان خيراً لك، إن أصابته ضراء صبر وانتظر الفرج، وقال: دوام الحال من المحال، فينتظر الفرج فيكون خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً، وليس هذا الشيء لأحد إلا للمؤمن.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:30] نقول فيها ما قلنا في الآيات السابقة أن المعنى: بإي نعمةٍ من نعم الله تكذبان؟
صلى الله عليه وسلم لا نكذب بأي شيءٍ من آيات الله ومن نعم الله، بل نقول: هي من عند الله فله الحمد وله الشكر.
من نسب النعمة إلى غير الله هل هو مكذب؟ الجواب: نعم مكذب، وإن لم يقل: إنه مكذب، قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] وهذه الآية يعنى بها، قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه على إثر مطرٍ كان، قال لهم بعد صلاة الصبح: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمنٌ بالكوكب) .