ثم قال عز وجل: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] (كل) مبتدأ و (في الزبر) خبره، وليس هذا من باب الاشتغال، بل هو خبرٌ محض، يعني: أن (كل) لا يمكن أن تكون مفعولاً لـ (فعلوه) ، بل هي مبتدأ على كل حال، وفي الزبر خبر، كل شيءٍ فعلوه أي: فعلته الأمم السابقة، أو الأمم اللاحقة فإنه مكتوب (في الزبر) أي: في الكتب، وكتابة الأعمال كتابةٌ سابقة وكتابةٌ لاحقة، الكتابة السابقة كتابة على أن هذا سيفعل كذا، وهذه الكتابة لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب؛ لأن المرء لم يكلف بها بعد، كتابةٌ لاحقة هي كتابة أنه فعل، فإذا فعل الإنسان حسنة كتبها الله، إذا فعل سيئة كتبها الله، وهذه الكتابة اللاحقة هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.
وبما قررناه يزول الإشكال عند بعض الناس في قول الله تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] فإن بعض الناس قد تشكل عليه هذه الآية، كيف يقول عز وجل: (حتى نعلم) وهو قد علم، يعني: العلم الذي يترتب عليه الثواب، وأما علم الله السابق، فإنه لا يترتب عليه الثواب ولا العقاب.
إذاً كل شيءٍ فعلوه في الزبر أي: كل شيءٍ فعلوه مكتوب، الكتابة السابقة: كتابة أنه سيفعل كذا، والكتابة اللاحقة كتابة أنه فعل، طيب ما هي الكتابة التي يترتب عليها العقوبة أو الثواب السابقة أو اللاحقة؟ اللاحقة، أما الكتابة السابقة فإن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله لما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة: (فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) نؤمن بهذا، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] وقال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] الكتابة اللاحقة: هي أن الله سبحانه وتعالى إذا عمل الإنسان عملاً كتب هذا، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:9-11] وهذه كتابة هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} معنى الآية: أن كل شيءٍ يفعله الإنسان فإنه مكتوب، فلا تظن أنه يضيع عليك شيء أبداً، كما قال عز وجل: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49] سبحان الله! بعد مئات السنين التي لا يعلمها إلا الله يجدونه حاضراً: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .