قال تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] أي: باقين فيها أحقاباً؛ أي: مدداً طويلة، وقد دلَّ القرآن الكريم على أن هذه المدد لا نهاية لها، وأنها مدد أبدية كما جاء ذلك مصرحاً به في ثلاث آيات من كتاب الله: - في سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:168-169] .
- وفي سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الأحزاب:64-65] .
- وفي سورة الجن في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23] .
فإذا كان الله صرح في ثلاث آيات من كتابه بأن أصحاب النار مخلدون فيها أبداً فإنه يلزم أن تكون النار باقية أبد الآبدين، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن النار والجنة مخلوقتان لا تفنيان أبداً، ووجد خلافٌ يسير من بعض أهل السنة في أبدية النار، وزعموا أنها غير مؤبدة، واستدلوا بحججٍ هي في الحقيقة شبه لا دلالة فيها لما ذهبوا إليه إذا قورنت بالأدلة الأخرى؛ فهو خلافٌ لا معول على المخالف فيه ولا على قوله.
والواجب على المؤمن أن يعتقد ما دل عليه كتاب الله دلالةً صريحة لا تحتمل التأويل، والآيات كما سمعتم كلها آيات محكمة لا يتطرق إليها النسخ ولا الاحتمال، أما عدم تطرق النسخ إليها فلأنها خبر، وأخبار الله عز وجل لا تنسخ، وكذلك أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن نسخ أحد الخبرين بالآخر يستلزم كذب أحدهما: إما تعمداً من المخبر، أو جهلاً بالحال، وكل ذلك ممتنع في خبر الله، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم المبني على الوحي.
المهم أيها الإخوة! أنه يجب علينا أن نعتقد أمرين: الأمر الأول: وجود الجنة والنار الآن.
وأدلة ذلك من القرآن والسنة كثيرة، منها قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133] والإعداد التهيئة، وهذا الفعل (أُعِدَت) فعل ماضٍ يدل على أن الإعداد قد وقع، وكذلك قال الله تعالى في النار: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [آل عمران:131] والإعداد تهيئة الشيء، والفعل هنا ماضٍ يدل على وقوع، وقد جاءت السنة صريحةً في ذلك في أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة ورأى النار.
الأمر الثاني: اعتقاد أنهما داران أبديتان من دخلهما وهو من أهلهما فإنه يكون فيهما أبداً، أما الجنة فمن دخلها لا يخرج منها، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، وأما النار فإن عصاة المؤمنين يدخلون فيها ما شاء الله أن يبقوا فيها، ثم يكون مآلهم الجنة كما شهدت بذلك الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] لا تدل بأي حال من الأحوال على أن هذه الأحقاب مؤمدة، أي: إلى أمدٍ ثم تنتهي، بل المعنى: أحقاباً كثيرة لا نهاية لها.