انتهينا إلى قوله الله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الذاريات:31-32] .
القائل: ما خطبكم؟ هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أي: ما شأنكم أيها المرسلون؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات:32-33] .
(أرسلنا) أي: أرسلنا الله عز وجل؛ لأنه من المعلوم أنه لا يرسل أحداً من الملائكة إلا خالقهم تبارك وتعالى، إلى قوم مجرمين، أي: ذوي جرم عظيم، ألا وهو اللواط -والعياذ بالله- فإنهم كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، فيأتون ما لم يخلق لهم، ويدعون ما خلق لهم، كما قال لهم نبيهم لوط عليه الصلاة والسلام: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:166] .
وهذه الفاحشة، فاحشة نكراء لا يقرها عقل، ولا فطرة، ولا دين، ولهذا كانت عقوبتها الإعدام للفاعل والمفعول به، إذا كانا بالغين عاقلين، سواء كانا محصنين أم غير محصنين، بخلاف الزنا، فهو أهون عقوبة؛ لأن الزنا من لم يكن محصناً فعقوبته أن يجلد مائة جلدة ويغرب عن البلد سنة كاملة، وإن كان محصناً -وهو: الذي قد تزوج وجامع- عقوبته أن يرجم بالحجارة حتى يموت، أما هذا فعقوبته القتل بكل حال، كما جاء في الحديث: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) .
ووقعت هذه الفاحشة في عهد أبي بكر رضي الله عنه، فأمر أن يحرق كل من الفاعل والمفعول به؛ لأن الإحراق أعظم عقوبة يعاقب بها بنو آدم، وكذلك جاء عن بعض الخلفاء أنهم أمروا بإحراق اللوطي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أجمع الصحابة على قتل اللوطي فاعلاً كان أو مفعولاً به، لكنهم اختلفوا كيف يقتل، منهم من أحرق ومنهم من قال: يرمى بالحجارة حتى يموت كالزاني المحصن، ومنهم من قال: يلقى من أعلى شاهق في البلد، يعني: من مكان مرتفع أعلى ما يكون في البلد، ثم يتبع بالحجارة حتى يموت.
فالمهم أنهم متفقون على قتله، ولا شك أن قتله هو الحكمة؛ لأن هذه الفاحشة متى دبت في الرجال، صار الرجال كالنساء، وبدأ الذل والعار والخزي على وجه المفعول به لا ينساه حتى يموت.
ثم استغنى الرجال بالرجال وبقيت النساء؛ لأن هذه الفاحشة -والعياذ بالله- إذا ابتلي بها الإنسان لا يلتفت إلى غيرها؛ لأنه مرض فتاك سارٍ، فإذا أعدم هؤلاء وهم في الحقيقة جرثومة فاسدة مفسدة للإنسان؛ كان ذلك عين الإصلاح، ثم اللواط، -والعياذ بالله- لا يمكن التحرز منه؛ لأنه بين ذكرين، لا يمكن لأي إنسان أن يجد ذكرين يمشيان في السوق أن ينكر عليهما اجتماعهما؛ لكن الزنا يمكن، رجل مع امرأة تستنكره أو تتهمه وتتكلم معه، ولذلك كان عقوبة الإعدام في حق اللوطي أوثق ما يكون للحكمة، بل الرحمة أيضاً، هي رحمة بالفاعلين، باللائط والملوط به، حتى لا يبقيا في حياتهما يكتسبان الإثم وتزداد العقوبة عليهما، ورحمة للمجتمع، تكون عقوبتهما نكالاً، حتى لا يفسد المجتمع، لهذا قالت الملائكة لإبراهيم: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} .
وجرمهم -والعياذ بالله- ما سبقوا إليه، كما قال لهم نبيهم: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] أرسلوا {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:33-34] حجارة من طين، لكنه ليس الطين الذي يتفتت، بل الطين الصلب العظيم، الذي إذا أصابت هذه الحجارة أحداً من الناس وضربته على رأسه خرجت من دبره، لا يردها عظم ولا لحم، لقوتها وشدتها وصلابتها والعياذ بالله، وهي معلمة.