قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] من امرأته هذه؟ هي: سارة، أم إسحاق، أقبلت لما سمعت البشرى في صرة، أي: في صيحة! سروراًً؛ أو ندماً وحزناً؟
صلى الله عليه وسلم أنها أتت بصرة سروراً؛ لأنها جاءتها هذه البشرى بعد أن تقدمت بها السن، تصيح وكأنها -والله أعلم- تقول: غلام! غلام! أي: ضربت وجهها بيدها كالمتعجبة كما يصنع الناس إلى اليوم، إذا أتاهم خبر فلان مات، الله أكبر وضرب على وجهه.
{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29] (عجوز) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أنا عجوز عقيم، فكأنها تعجبت أن تحصل لها البشرى بهذا الغلام العليم بعد أن تقدمت بها السن، وعقمت من الولد ولكنهم بينوا لها السبب الوحيد الذي به وجد هذا الولد، فقالوا: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [الذاريات:30] أي: مثلما قلنا وبشرنا به، قال الله عز وجل.
وانظر إلى قوله: {قَالَ رَبُّكِ} [الذاريات:30] حيث أضاف الربوبية هنا إلى هذه المرأة العجوزة الكبيرة إشارة إلى أن هذا من عناية الله بها؛ لأن إضافة الربوبية إلى الشخص المعين، تكون ربوبية خاصة، وانتبهوا إلى الفرق: الربوبية العامة لكل أحد، الله رب كل شيء، الخاصة ليست لأحد إلا لمن كان خاصاً بالله، وأتلو عليكم هذه الآية {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:47-48] .
الربوبية العامة، (رب العالمين) ، والربوبية الخاصة: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:48] هنا قالوا لها: (قال ربك) ، من باب الربوبية الخاصة، التي تقتضي عناية خاصة، {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:30] عز وجل، {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} ، أنت تجعل (هو) هنا: مبتدأ.
و (الحكيم) : خبر.
أو تجعل (هو) ضمير فصل.
و (الحكيم) خبر؟ لك الخيار، إن شئت فقل: (الحكيم) : خبر.
و (هو) ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وإن شئت فقل: (هو) مبتدأ و (الحكيم) خبر (هو) ، والجملة خبر إن، وهنا قدَّم (الحكيم) على (العليم) لأن المقام يقتضي هنا تقديم الحكمة على العلم.
الحكمة هنا في شيئين: أولاً تأخير الولادة بالنسبة لهذه المرأة، إن الله لم يؤخر ولادتها إلى أن تبلغ العجز إلا لحكمة، وهي كونها ولدت بعد أن أيست واعتقدت أنها عقيم، فها هنا حكمتان حكمة سابقة، وحكمة لاحقة ومن ثم قدَّم اسم (الحكيم) على اسم (العليم) وأنتم تشاهدون أن القرآن الكريم إذا جمع الله بين هذين الاسمين الكريمين: (العليم والحكيم) يقدم غالباً العليم، لكن هنا قدم الحكيم؛ لأن المقام يقتضي ذلك {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} .
وهنا أسأل: ما معنى الحكيم؟ أكثر الناس يظنون أن معنى الحكيم أنه المتصف بالحكمة، والحكمة هي: وضع الشيء في مواضعه، ولكن الواقع أن الحكيم له معنيان: حكيم من الحكمة، وحكيم من الحكم، فالله عز وجل حكيم من الحكمة؛ لأن الله تعالى هو الحكم بين العباد والحاكم في العباد، هو حاكمٌ فيهم وهو الحكم بينهم، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] وهذا الاستفهام للتقرير، أي: أن الله تعالى أحكم الحاكمين، وأرجو الانتباه هنا قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة:50] في سورة المائدة، وفي سورة التين: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] .
كلاهما في محله المناسب، ففي سورة المائدة ذكر الله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {.
الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {.
الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] وتتابعت الآيات حتى قال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فكأن المقام مقام مفاضلة بين الأحكام، وبين أن حكم الله أحسن الأحكام، لكن في سورة التين المقام مقام سلطة وقوة والله أحكم الحاكمين، أي: أن حكمه نافذ وسلطته تامة، ولا أحد يعارض حكمه أبداً مهما قويت شوكته.
وانظر إلى قول الله تعالى عن عاد: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] أي: لا أحد أشد منا قوة، فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وعذبهم بألطف الأشياء، عذبهم بالريح، الهواء اللطيف التي لا تحس به ملمساً وإن كان قوياً، يدفع كل شيء وهو أقوى من الماء كما هو معروف، وهذا الهواء اللطيف أهلك فيه هؤلاء القوم الذين يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] أهلكم به.
الحاصل أن الله أحكم الحاكمين حكمه نافذ صادر عن قوة وسلطان، ثم إن أحكم الحاكمين تتضمن -أيضاً- حسن الحكم.
إذاً الحكيم في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:30] يتضمن معنين معنىً من الحكم، ومعنىً من الحكمة، انتهينا من الحكمة صار حكم الله عز وجل يتضمن أنه الحاكم في العباد وأنه الحاكم بين العباد، وأن حكمه أحسن الأحكام، وأنه تعالى أحكم الحاكمين.
أيضاً لله تعالى الحكمة البالغة، ولا شيء من الأفعال القائمة في الوجود أحكم من حكمة الله، وإذا آمنت بهذا أيها المؤمن! سهل عليك أمور كثيرة تشكل على كثير من الناس، منها بعض الأحكام الشرعية لا يدرك الناس حكمتها، فهل نقول: إذا لم يجد الحكمة أنه لا حكمة لها، أو نقول: إن لها حكمة لكن عقولنا قاصرة؟ الثاني، وإذا آمنا هذا الإيمان اطمأننا إلى كثير من الأمور الشرعية التي تخفى علينا حكمتها، هل نحن ندرك الحكمة في كون الصلوات خمساً؟ لا.
أو أنها سبعة عشر ركعة؟ لا.
وأشياء كثيرة من الأمور الشرعية، لا يدرك الإنسان حكمتها، لكن إذا آمنت أن الله حكيم، آمنت بأن لهذه الأشياء حكمة تقتضيه.
كذلك في الأمور القدرية: قد يرسل الله سبحانه وتعالى عذاباً يشمل الصالح والطالح، وقد يرسل الله عذاباً على قوم لا تتوقع أن يرسل لهم العذاب، فهل تقول: ما الحكمة؟ أو تقول: إن الله عز وجل لابد أن يكون تقديره لهذا عن حكمة، ولذلك أقول لكم: إن الواجب علينا فيما أمر الله به من الشرائع وفيما قضاه من الأقدار أن نستسلم غاية التسليم، وألا نعترض هذا بعقولنا.
واستمعوا إلى قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] هذه واحدة {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] الثانية، والثالثة: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] .
أقسم الله عز وجل أنه لا يمكن أحد يؤمن إلا بهذه الشروط الثلاثة، هي: الأول: أن يحكموك فيما شجر بينهم.
والثاني: ألا يجدوا في صدورهم حرجاً بمعنى: ألا تضيق صدورهم بحكم الله.
الثالث: أن يسلموا تسليماً، أكد هذا المصدر أي: تسليماً تاماً، لا يتهاون الإنسان ويتباطأ في تنفيذ حكم الله، فإذا وجدت من نفسك عيباً يتعلق بهذه الأمور الثلاثة فصحح إيمانك، إذا رأيت أنك تود أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله صحح إيمانك، وإذا رأيت من قلبك أنك لا تريد إلا حكم الله ورسوله لكن يضيق صدرك لحكم الله ورسوله، وأنت تحدث نفسك أنك لا يمكن أن تتحاكم إلى غير الله ورسوله، لكن يضيق صدرك، إذا كان لا يضيق صدرك لا تحاكم إلى غير الله ورسوله وأنت منشرح الصدر بحكم الله ورسوله، لكن تتباطأ وتتهاون فأنت ناقص الإيمان، اقرأ قول الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] .
لما لم يؤمنوا به أول مرة ولم يقبلوه من أول مرة صارت -والعياذ بالله- قلوبهم متقلبة، وتركهم الله في طغيانهم يعمهون، ولهذا يجب عليك أيها المؤمن! أن تبادر بانقياد تام لحكم الله تعالى القدري.
نرجو الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير.