ثم قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) [ق:22] :- {كُنْتَ} الخطاب للإنسان، وفيه ما يسمى بالالتفات، والالتفات معناه: أن ينتقل الإنسان في أسلوبه، من خطاب إلى غَيبة أو من غَيبة إلى خطاب، أو من تكلُّم إلى غَيبة، المهم أن تختلف الضمائر، وفائدة ذلك الالتفات: أنه يشد ذهن السامع، فبينما الكلام على نسق واحد إذا به يختلف.
انظر إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ) [المائدة:12] وبعده {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة:12] ولم يقل: وبعث.
وانظر إلى الفاتحة التي نقرأها كل يوم في كل ركعة من صلواتنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:1-3] بعده؟ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5] ولم يقل: إياه نعبد، وسياق الآيات للغائب، الحمد لله ليس هو للمخاطب، فما قلتَ: الحمد لك يا رب.
فالمهم أن الالتفات أسلوب من أساليب اللغة العربية وفائدته: شد ذهن السامع لما يلقى إليه من الكلام.
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) ، وكما تعلمون أن الجملة هنا مؤكدة بثلاث مؤكدات؛ {لَقَدْ كُنْتَ} ، وهي كثيرة الوقوع في القرآن دائماً: (لقد كنتَ) (لقد كان) (لقد جاء) هذه الجملة يقول العلماء: إنها مؤكدة بثلاث مؤكدات: الأول: القَسَم.
والثاني: اللام.
والثالث: قد.
إذاً التقدير: والله! لقد كنت في غفلة من هذا، وهنا نطرح سؤالاً: أليس خبر الله تعالى حقاً وصدقاً سواء أُكِّد أم لم يؤكد؟ بلى ولاشك؛ لكن ما دام القرآن نزل باللسان العربي، فإنه لابد أن يكون التأكيد في موضعه وعدم التوكيد في موضعه؛ لأن المقصود أن يكون هذا القرآن في أعلى مراتب البلاغة.
{لَقَدْ كُنْتَ} [ق:22] أي: أيها الإنسان.
{فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22] أي: كنتَ غافلاً عن هذا اليوم، ساهٍ في الدنيا، كأنك خُلِقْتَ لها.
{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق:22] يعني: هذا اليوم كُشِف الغطاء وبان الخفي واتضح كل شيء.
{فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22] أي: قوي بعد أن كان في الدنيا أعشى أعمى غافلاً؛ لكن يوم القيامة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران:30] يتبيَّن كل شيء.
نسأل الله تعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة والعاقبة، وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.