ثم قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] :- (إنما) أداة حصر تفيد إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه، أي: ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد بالمؤمنين حقاً: الذين تم إيمانهم الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا: أقروا إقراراً مستلزِماً للقبول والإذعان، وليس مجرد الإقرار كافياً، بل لابد من قبولٍ وإذعان، والدليل على أن مجرد الإقرار ليس بكافٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن عمه أبي طالب أنه في النار، مع أنه مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام مصدِّق به، يقول في لاميته المشهورة:
لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ لدينا ولا يُعْنَى بقول الأباطلِِ
ويقول عن دين الرسول:
ولقد علمتُ بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لكنه والعياذ بالله لم يقبل هذا الدين، ولم يذعن له، وكان آخر ما قال أنه على الشرك، على ملة عبد المطلب.
فالذين آمنوا بالله ورسوله: هم الذين أقروا إقراراً تاماً بما يستحقه الله عز وجل، وبما يستحقه الرسول عليه الصلاة والسلام وقبلوا ذلك وأذعنوا له.
{ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} : كلمة (ثُمَّ) هنا في موقع من أحسن المواقع، (ثم) تدل على الترتيب بمهلة، يعني: ثم استقروا وثبتوا على الإيمان مع طول المدة: (لَمْ يرتابوا) : أي: لم يلحقهم شك بالإيمان بالله ورسوله.
وهنا ننبه إلى مسألة يكثُر السؤال عنها في هذا الوقت وإن كان أصلها موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وهي: الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، يلقي الشيطان في قلب الإنسان أحياناً وساوسَ وشكوكاً في الإيمان، في القرآن، في الرسول، في الرب عز وجل، وساوس يحب الإنسان أن يُمَزَّقَ لَحْمُه ويُكْسَرَ عَظْمُه ولا يتكلم بذلك، فما موقف الإنسان من هذا؟ موقف الإنسان من هذا: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهِ، ويُعرض عن هذا ولا يفكر فيه إطلاقاً، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مثل هذه الوساوس صريح الإيمان أي: خالص الإيمان، هذا إنما كان صريح الإيمان؛ لأن الشيطان لا يأتي لإنسان شاكٍّ يشككه في دينه، وإنما لإنسان ثابتٍ مستقرٍ ليشككه في دينه فيفسده عليه، وأما المؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه، واطمأن قلبه بالإيمان؛ فإنه هو الذي يأتيه الشيطان ليفسد عليه دينه، أما من ليس بمؤمن فإن الشيطان لا يأتيه بمثل هذه الوسواس لأنه مُنْتَهٍ منه.
والمهم أن قوله: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} يدل على أنهم ثبتوا على الإيمان ولو طالت بهم المدة، فإذا قال قائل: ما هي الطريق التي توجب للإنسان ثبوت الإيمان واستقراره؟ قلنا: أولاً: أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات العظيمة لم تكن وليدة الصدفة، ولم تكن وليدةً بنفسها، وأن يتفكر أيضاً في شريعة الله وكمالها، وأن يتفكر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وما إلى ذلك، وكذلك أيضاً يُكْثِر من ذكر الله عز وجل، فإنَّ بذكر الله تطمئن القلوب، ويكثر من الطاعات والأعمال الصالحة؛ لأن الطاعات والأعمال الصالحة تزيد في الإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة رحمهم الله.
{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15] :- هذا أيضاً معطوف على قوله: {آمَنُوا} أي: هم الذين مع إيمانهم بالله عز وجل، ويقينهم وعدم ارتيابهم يريدون أن يصلحوا عباد الله، بماذا؟ بالجهاد في سبيل الله، يجاهدون أعداء الله ليَرْجِعوا إلى دين الله، ويستقيموا عليه، لا للانتقام منهم، ولا للانتصار لأنفسهم، ولكن ليَدْخُلوا في دين الله عز وجل.
والجهاد في سبيل الله: هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا للانتقام، القتال للانتقام ليس إلا مدافعة عن النفس أو أخذاً بالثأر فقط، لكن الجهاد حقيقةً: هو أن يقاتل الإنسان لتكون كلمة الله هي العليا، أما الجهاد انتصاراً للنفس، أو دفاعاً عن النفس فقط فليس في سبيل الله، لكن لا شك أن من قاتل دفاعاً عن نفسه فإنه إن قُتِل فهو شهيد، وإن قَتَل صاحبَه فصاحبُه في النار، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أراد أن يأخذ ماله قال: (لا تعطِه، قال: يا رسول الله! أرأيت إن قاتَلَني؟ قال: قاتِلْه، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت أن قتلتُه قال: فهو في النار) .
إذاً: ما هو الجهاد في سبيل الله؟ القتال لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو الذي حَدَّه النبي عليه الصلاة والسلام وفَصَلَه فَصْلاً قاطعاً.
{أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] :- أولئك هم الصادقون في إيمانهم وعدم ارتيابهم، أما الذين قالوا من الأعراب: آمنا، ولكنهم لم يؤمنوا حقيقةً، ولكن أسلموا فإنهم ليسوا صادقين، ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] .