قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] .
تصدير الخطاب بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على العناية به, ولهذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك؛ فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه] وإما خبر تحصل به العبرة والاتعاظ, كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] .
يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ) الظن: هو أن يكون لدى الإنسان احتمالان يترجح أحدهما على الآخر, وهنا عبر الله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) ولم يقل: اجتنبوا الظن كله, لأن الظن ينقسم إلى قسمين: 1- القسم الأول: ظن خير للإنسان، وهذا مطلوب أن تظن بإخوانك خيراً ما داموا أهلاً لذلك, وهو المسلم الذي ظاهره العدالة, فإن هذا يظن به خيراً, ويثنى عليه بما ظهر لنا من إسلامه وأعماله.
2- القسم الثاني: ظن السوء، وهذا يحرم بالنسبة للمسلم الذي ظاهره العدالة، فإنه لا يحل لأحد أن يظن به ظن السوء, كما صرح بذلك العلماء, فقالوا رحمهم الله: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.
والثاني: ظن سوء بمن قامت القرينة على أنه أهلٌ لذلك, فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به, ولهذا من الأمثال المضروبة المشهورة السائرة: احترسوا من الناس بسوء الظن, ولكن هذا ليس على إطلاقه كما هو معلوم, وإنما المراد: احترسوا من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا تثقوا بهم.
المهم أن الإنسان لا بد أن يقع في قلبه شيء من الظن بأحد من الناس, بقرائن تحتف بذلك, إما لظهور علامات في وجهه يظهر من وجهه العبوس والكراهية لمقابلته أو ما أشبه ذلك, أو من أحواله التي يعرفها الإنسان منه, أو من أقوال تصدر منه, فيظن به ظن السوء, وهذا إذا قامت القرينة على وجوده فلا حرج على الإنسان من أن يظن به ظن السوء.
فإذا سئل: أيهما أكثر: الظن المنهي عنه أو الظن المباح؟ قلنا: الظن المباح أكثر, لأنه يشمل نوعاً كاملاً من أنواع الظن, وهو ظن الخير, ويشمل كثيراً من ظن السوء؛ لأنه إذا لم يكن هناك قرينة تدل على هذا الظن السيئ فإنه لا يجوز للإنسان أن يتصف بهذا الظن, ولهذا قال: (كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) ولم يقل: أكثر الظن ولا كل الظن, بل قال: (كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) .
ثم قال: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وقد توحي هذه الجملة بأن أكثر الظن ليس بإثم, وهو منطبق تماماً على ما بيناه وقسمناه, أن الظن نوعان: ظن خير وظن سوء, ثم ظن السوء لا يجوز إلا إذا قامت القرينة على وجودها, ولذا قال: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فما هو الظن الذي ليس بإثم؟ هو ظن الخير، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا ليس بإثم؛ لأن ظن الخير هذا هو الأصل, وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا أيضاً عينته القرينة.