قال الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] الجملتان فيهما حصر, فمعنى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك, و (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي: لا نستعين إلا إياك, وطريق الحصر أنه قدم المعمول وحقه التأخير, وكلما قُدِّم ما حقه التأخير فإنه يفيد الحصر, هذا في اللغة العربية كما نص على ذلك أهل البلاغة وأهل النحو.
فما معنى العبادة التي قال الله عنها: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ؟ العبادة: هي التذلل لله عز وجل والخضوع له, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, وتصديق أخباره, وتعظيمه, ومحبته, إلى غير ذلك من أنواع العبادة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالطهارة عبادة, والصلاة عبادة, والصدقة عبادة, والزكاة عبادة, والصوم عبادة, والحج عبادة, والنذر عبادة, والتوكل -وهو التفويض المطلق- عبادة, إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي ذكرها أهل العلم, والإنسان العابد يشعر بأنه عبد لسيده وإلهه, إذا أمره قال: سمعنا وأطعنا.
ومن تمام العبودية: الحب في الله والبغض في الله, فإن هذا أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وتبغض لله, وتوالي لله وتعادي لله, فمن كان من عباد الله الصالحين فهو حبيبك في أي مكان في الأرض, وفي أي زمن من الأزمنة, حتى الذين آمنوا بموسى من بني إسرائيل, والذين آمنوا بعيسى من بني إسرائيل هم أحبابنا وإخواننا.
لا تظنوا أن الحبيب أو الأخ هو من كان من هذه الأمة بل هو كل من كان مسلماً في أي زمان وفي أي مكان فإنه أخ لنا؛ لأن هذا مقتضى العبادة، فالحب في الله والبغض في الله, والولاء في الله والمعادة في الله عز وجل, هذا من تمام العبادة.
من تمام العبادة: أن الله إذا أمر بأمر تقول: سمعنا وأطعنا, بعض الناس الآن إذا قلت: أمر الله بكذا أو أمر الرسول بكذا قال: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ سبحان الله! هل كان الصحابة يستفهمون مثل هذا الاستفهام إذا أمرهم الله بشيء أو أمرهم الرسول بشيء, يقولون: هل هذا للاستحباب أو للوجوب؟! لا.
بل يقولون: سمعنا وأطعنا, نعم إذا وقع الإنسان في المخالفة فحينئذٍ يتوجه هذا السؤال أن يقال: هل هذا للوجوب ويحتاج إلى فدية أو كفارة أو ما أشبه ذلك؟ إذا نهاه الله ورسوله عن شيء يقول: هل النهي للكراهة أم للتحريم؟ سبحان الله! إذا نهي عن شيء فقل: سمعنا وأطعنا, ونتجنبه.
ولهذا لا يستطيع أحد أن يأتي بحرف واحد عن الصحابة أنهم إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: هل أنت تأمرنا على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب؟ وإذا نهاهم عن شيء قالوا: هل أنت تنهانا على سبيل التحريم أم على سبيل التنزيه؟ أبداً, نعم إذا حصل شيء يوجب الاستفهام استفهموا.
مثال: قضية بريرة رضي الله عنها، فإنها لما عتقت وكان زوجها رقيقاً, قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أنت بالخيار إن شئت أن تبقي معه، وإن شئت أن تفسخي النكاح فافسخي النكاح, فقالت: أختار نفسي وأفسخ النكاح, ففسخت النكاح) وكان زوجها مغيث يحبها حباً شديداً وهي تكرهه كراهة شديدة, فكان يمشي خلفها في أسواق المدينة يسألها أن ترجع وأن تعدل عن رأيها, ولكنها تأبى, فطلب مغيث من رسول الله أن يشفع له, فشفع له لعله يرجع إليها, قالت: (يا رسول الله أتأمرني؟ فسمعاً وطاعة, أم أمر تشير به عليَّ فلا حاجة لي فيه, قال: بل أمر أشير به عليكِ, قالت: لا حاجة لي فيه) .
وكذلك إذا دلت القرينة على أن الأمر ليس للوجوب مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـ جابر بن عبد الله: (بعني الجمل بأوقية) فجعل يماكسه حتى اشتراه الرسول عليه الصلاة والسلام, المهم أن الأمر الشرعي لا يمكن للصحابة أن يقولوا: يا رسول الله هل الأمر للاستحباب أم للوجوب.
فمن تمام التعبد أنك إذا سمعت بأمر الله ورسوله فلا تتردد, ولا تقول: للوجوب أم للاستحباب، بل قل: سمعنا وأطعنا، وافعل وستؤجر, كذلك إذا سمعت النهي فلا تتردد ولا تقول: هل هو للتحريم فأجتنبه وجوباً, أو للكراهة فأجتنبه تنزهاً, بل قل: سمعنا وأطعنا, إلا إذا وقع الإنسان في المخالفة, فحينئذٍ يسأل: هل هو واجب أم محرم من أجل أن يستدرك ما فاته, المهم أن من تمام العبادة تمام الامتثال, بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) معنى نستعين, أي: نطلب العون من الله, والاستعانة تقع على وجهين: الوجه الأول: استعانة عبادة, بمعنى: أن الإنسان يفوض أمره إلى الله, ويعلم أنه لا قدرة له على شيء إلا بمعونة الله, هذه لا تكون إلا لله.
الوجه الثاني: استعانة بأمر يقدر عليه المعين, والإنسان لا يرى أنه يفوض أمره إلى هذا المستعان به، ولكنه يرى أنه من باب المساعدة, فهذا جائز، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها, أو ترفع له عليها متاعه صدقة) تعينه, فأثبت الإعانة من المخلوق للمخلوق.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ما المراد بالاستعانة هنا؟ الاستعانة التي لا تصلح إلا لله أم التي تصلح لله وللمخلوق؟ المراد الأول، الاستعانة التي فيها التفويض المطلق وأنه لا قدرة للمستعين على أي شيء إلا بمعونة، هذه الاستعانة به وهذه لا تكون إلا لله عز وجل.