قال تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1-5] كرر في الجمل على مرتين مرتين, {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي: لا أعبد الذي تعبدونهم, وهم الأصنام, {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وهو الله, وهنا (ما) في قوله: {مَا أَعْبُدُ} بمعنى: من؛ لأن الاسم الموصول إذا عاد إلى الله فإنه يأتي بلفظ من {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: أنا لا أعبد أصنامكم وأنتم لا تعبدون الله {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} الآن يظن الظان أن هذه مكررة للتوكيد, وليس كذلك؛ لأن الصيغة مختلفة {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} هذا فعل أو اسم؟ فعل, {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} عابد وعابدون اسم, وفي التوكيد لابد أن تكون الجملة الثانية كالأولى, إذاً القول بأنه كرر للتوكيد ضعيف, إذاً لماذا هذا التكرار؟ قال بعض العلماء: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الآن, {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} في المستقبل, هذا قول, فصار: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يعني في الحال {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} يعني: في المستقبل، لأن فعل المضارع يدل على الحال, واسم الفاعل يدل على الاستقبال, بدليل أنه عمل, واسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان للاستقبال.
لكن أورد على هذا القول إيراد, كيف قال: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مع أنهم قد يؤمنون فيعبدون الله؟ وعلى هذا فيكون في هذا القول نوع من الضعف, أجابوا عن ذلك بأن قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يخاطب المشركين الذين علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا, فيكون الخطاب ليس عاماً وهذا مما يضعف القول بعض الشيء, فعندنا الآن قولان: الأول: أنها توكيد, والثاني: أنها في المستقبل.
القول الثالث: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي: لا أعبد الأصنام التي تعبدونها, {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: لا تعبدون الله, {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: في العبادة, يعني: ليست عبادتي كعبادتكم، ولا عبادتكم كعبادتي, فيكون هذا نفي للفعل لا للمفعول له, أي: ليس نفي للمعبود ولكنه نفي للعبادة, أي: لا أعبد كعبادتكم ولا تعبدون أنتم كعبادتي؛ لأن عبادتي خالصة لله, وعبادتكم عبادة الشرك.
القول الرابع: اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, أن قوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} هذا الفعل, فوافق القول الأول في هذه الجملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: في القبول, بمعنى: ولن أقبل غير عبادتي, ولن أقبل عبادتكم وأنتم كذلك لن تقبلوا, فتكون الجملة الأولى عائدة على الفعل, والجملة الثانية عائدة على القبول والرضا, أي: لا أعبده ولا أرضى به, وأنتم كذلك لا تعبدون الله ولا ترضون بعبادته, وهذا القول إذا تأملته لا يرد عليه شيء من الأقوال السابقة, فيكون قولاً حسناً جيداً.
ومن هنا نأخذ: أن القرآن الكريم ليس فيه شيء مكرر إلا وفيه فائدة, لأننا لو قلنا: إن في القرآن شيئاً مكرراً بدون فائدة لكان في القرآن ما هو لغو وهو منزه عن ذلك, وعلى هذا فالتكرار في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وفي سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} قد يقال: ليس لها فائدة, بل هو تكرار لفائدة عظيمة, وهي: أن كل آية ما بين هذه الآية المكررة فإنها تشتمل على نعم عظيمة, وآلاء جسيمة, ثم فيها من الفائدة اللفظية: تنبيه المخاطب, بحيث يكرر عليه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] ويكرر عليه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15] .