ثم بين جزاءهم فقال: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البينة:8] وهنا قدم الله الثناء على المؤمنين الذين عملوا الصالحات على ذكر جزائهم؛ لأن ثناء الله عليهم أعظم مرتبة وأعلى منقبة، ولذلك قدمه على الجزاء الذي هو جزاؤهم في يوم القيامة {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، (جنات) جمعها لاختلاف أنواعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) ، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ، ثم ذكر أوصاف هاتين الجنتين ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] ، وقال تعالى: {فَلَهُمْ جَنَّاتُ} [السجدة:19] .
والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاءً للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمة أعدها الله عز وجل للمؤمنين المتقين (فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، ولا يمكن للإنسان في هذه الدنيا أن يتصور كيف نعيم الآخرة أبداً، لأنه أعلى وأجل مما نتصور قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء] لكنها تختلف الحقائق اختلافاً عظيماً.
قال عز وجل: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} العدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولاً عما هو عليه من النعيم؛ لأنه لا يرى أن أحداً أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل، قال الله تبارك وتعالى: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:108] أي: لا يبغون تحولاً عما هم عليه؛ لأن الله تعالى قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحداً أكمل نعيماً منهم؛ ولهذا سمى الله تعالى هذه الجنات جنات عدنٍ، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها.
((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)) [البينة:8] (من تحتها) قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها، وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مجملة فصلها في سورة محمد فقال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] ، وقد جاءت الآثار في وصف هذه الأنهار: أنها تجري بغير أخدود وبغير خنادق.
بمعنى: أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يميناً وشمالاً وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه النونية:
أنهارها من غير أخدودٍ جرت سبحان ممسكها عن الفيضانِ
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي: ماكثين فيها أبداً لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا ينامون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائماً وأبداً، أبد الآبدين اللهم اجعلنا منهم.
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وهذا أكمل نعيم، أن الله تعالى يرضى عنهم فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبداً، بل وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك ولا يمترون في ذلك ولا يتضامون في ذلك، أي: لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الآخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل.
ثم قال عز جل: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي: ذلك الجزاء لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم، ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] .
وبهذا تمت هذه السورة العظيمة، وتم ما تيسر لنا من الكلام على تفسيرها، ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير.