قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] (ثم كان) أي: ثم هو بعد ذلك ليس محسناً على اليتامى وعلى المساكين بل هو ذو إيمان بالله {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] (الذين آمنوا) بمن؟ آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم من الذي يجب الإيمان به حين سأله جبريل عن الإيمان: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) .
وكذلك من الإيمان بالله الأعمال الصالحات، والأعمال الصالحات هي: كل عمل يقرب إلى الله عز وجل، وهو مبني على الإخلاص والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يكون العمل عملاً صالحاً إلا بنية ومتابعة؛ بنية: أن يكون عملاً خالصاً لله، ومتابعة: بأن يكون العمل على وفق شريعة الله سبحانه وتعالى.
فلو أن الإنسان عمل عملاً مخلصاً فيه غاية الإخلاص لكنه على خلاف هدي الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقبل منه؛ وذلك لعدم الاتباع، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وكذلك لو كان العمل على وفق الشريعة ظاهراً لكن فيه رياء فإنه لا يقبل ولا يكون عملاً صالحاً؛ لقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
وقوله: (وتواصوا بالصبر) أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، والصبر ثلاثة أنواع: 1- صبر على طاعة الله.
2- صبر عن معصية الله.
3- صبر على أقدار الله المؤلمة.
فهم صابرون متواصون بالصبر، وأي هذه الأنواع أفضل؟ الأفضل الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة، وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة في الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم.
فهاهو الرسول عليه الصلاة والسلام صابر على طاعة الله، يجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، ويؤذى ويعتدى عليه بالضرب، حتى هم المشركون بقتله، وهو مع ذلك صابر محتسب.
وهو أيضاً صابر عن معصية الله، لا يمكن أن يغدر بأحد، ولا يكذب على أحد، ولا يخون أحداً، وهو أيضاً متقٍ لله تعالى بقدر ما يستطيع، كذلك صابر على طاعة الله، كم أوذي في الله عز وجل من أجل طاعته! أليس قريش قد آذوه حتى إذا رأوه ساجداً تحت الكعبة أمروا من يأتي بسلى ناقة فيضعه على ظهره وهو ساجد عليه الصلاة والسلام، وهو صابر في ذلك كله؟!! يوسف عليه الصلاة والسلام صبر على أقدار الله، وقد ألقي في البئر في غيابة الجب، وأوذي في الله في السجن ومع ذلك فهو صابر محتسب لم يتضجر ولم ينكر ما وقع به.
وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي: أوصى بعضهم بعضاً أن يرحم الآخر، والرحمة رحمة الله عز وجل، أعني: رحمة الإنسان للمخلوقات تكون في البهائم وتكون في الناطق، فهو يرحم آباءه وأمهاته، وأبناءه وبناته، وإخوانه وأخواته، وأعمامه وعماته وهكذا، ويرحم كذلك سائر البشر، وهو أيضاً يرحم الحيوان البهيم: فيرحم ناقته وفرسه، وحماره وبقرته، وشاته وغير ذلك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .