ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب، ويشرح الصدر، فقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27] اللهم اجعل نفوسنا مطمئنة.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27-28] .
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر:28] يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا، يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمةٍ من الله ورضوان، فتستبشر وتفرح، ويسهُل خروجُها من البدن؛ لأنها بُشِّرت بما هو أنعم مِمَّا في الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لَمَوضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها) سوط الإنسان: العصا القصيرة، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وليست دنياك أنت بل الدنيا من أولها إلى آخرها، بما فيها من النعيم، والمُلْك، والرفاهية، وغيرها، فموضع سوط أحدكم خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في مُلْك مسيرته ألفَي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، نعيمٌ لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] .
المطمئنة: أي المؤمنة الآمنة؛ لأنك لا تجد نفساً أكثر اطمئناناً مِن نفْس المؤمن أبداً، فالمؤمن -يا إخواني- نفسُه طيبة مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمن فقال: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمرَه كلَّه خير، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له) فهو مطمئنٌ ماضٍِ مع الله بقضائه وقدره، لا يسخط عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده مطمئناً.
لكن الكافر، أو ضعيف الإيمان كلاهما لا يطمئن، إذا أصابه البلاء جَزع وسخِط، ورأى أنه مظلوم مِن قِبَل الله والعياذ بالله، حتى إن بعضهم ينتحر؛ لأنه لا يصبر ولا يطمئن، بل يكون دائماً في قلق، فينظر إلى نفسه وإذا هو قليل المال، وقليل العيال، وليس عنده زوجة، وليس له قوم يحمونه، فيقول: أنا لستُ في نعمة؛ لأن فلاناً عنده مال، وعنده زوجات، وعنده أولاد، وعنده قبيلة تحميه، أما أنا فليس عندي شيء من هذا، فلا يرى لله عليه نعمة؛ لأنه ضعيف الإيمان، وليس بمطمئن، بل هو دائماً في قلق.
ولهذا نجد الناس الآن يذهبون إلى كل مكان ليُرَفِّهوا عن أنفسهم، ويزيلوا عنها الألم والتعب؛ لكن لا يزيل ذلك عنهم إلا الإيمان الحقيقي، فهو الذي يؤدي إلى الطمأنينة.
فالنفس المطمئنة: هي المؤمنة الآمنة، مؤمنة في الدنيا، وآمنة من عذاب الله يوم القيامة، اللهم اجعل نفوسنا هكذا.
يا إخواني! قال بعض السلف كلمة عجيبة، قال: [لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لَجالَدُونا عليه بالسيوف] هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم؟ لا.
لا يوجد أحدٌ أنعم منهم في الظاهر في نعمة الجسد؛ لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، فالمؤمن الذي ليس عليه إلا ثوبٌ مُرَقَّع، وكوخٌ لا يحميه من المطر ولا من الحر؛ هذا المؤمن دنياهُ ونعيمُه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك؛ لأن قلبَه مستنير بنور الله ونور الإيمان.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حُبس وأوذي في الله عزَّ وجلَّ، فلما أُدْخِل الحبس وأُغْلِقَ عليه الباب.
قال رحمه الله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يقول هذا تَحَدُّثاً بنعمة الله لا افتخاراً، ثم قال: ما يصنع أعدائي بي؟! -أيَّ شيءٍ يصنعون؟! - إن جنتي في صدري -ما هي الجنة؟! الإيمان، والعلم، واليقين-، وإن حبسي خلوة، ونفيي -إن نفَوه من البلد- سياحة، وقتلي شهادة.
سبحان الله! هذا هو اليقين، وهذه هي الطمأنينة.
إن الإنسان عندنا لو أُدخل الحبس تجده يُخَمِّس ويُسَدِّس، ويقول: ما مستقبلي؟! ما مستقبل أولادي؟! وأهلي؟! وقومي؟! لكن ابن تيمية يقول: جنتي في صدري.
وصَدَقَ، ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56] يعني: في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وليس في الجنة موتة أولى ولا ثانية؛ لكن لَمَّا كان نعيم القلب ممتداً من الدنيا إلى دخول الجنة صارت الدنيا والآخرة كأنهما جنة واحدة، وليس فيها إلا موتة واحدة.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، وأن يجمعنا وإياكم في الجنة، وبإخوانَنا المسلمين الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ إنه على كل شيء قدير.