ذكَّر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] أي: صفاً بعد صف.
فالأمر الأول: مجيء الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] وهذا المجيء هو مجيئُه عزَّ وجلَّ؛ لأن الفعل أُسنِد إلى الله، وكل فعل أسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه هي القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته: كل ما أسنده الله لنفسه فهو له لا لغيره.
وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عزَّ وجلَّ، وليس كما حرفه أهل التعطيل، حيث قالوا: إنه جاء أمر الله، وهذا إخراجٌ للكلام عن ظاهره بلا دليل.
فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله ورسوله على ظاهره، وأن لا نحرف فيه، ونقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو بنفسه؛ ولكن كيفية هذا المجيء؟ هذا هو الذي لا علم لنا به، فلا ندري كيف يجيء.
والسؤال عن مثل هذا بدعة، كما قال الإمام مالك رحمه الله حين سأله سائل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟! فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُّحَضاء -أي: العرق- لشدة هذا السؤال على قلبه؛ لأنه سؤالٌ عظيم، سؤالُ متنطِّع، سؤالُ متعنِّتٍ أو مبتدعٍ يريد السوء، ثم رفع رأسه، وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
والشاهد هو قوله: والسؤال عنه بدعة واعتَبِرْ هذا في جميع صفات الله.
فلو سألَنا سائل فقال: إن الله يقول: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: آدم، كيف خلقه بيده؟! نقول: هذا السؤال بدعة.
فلو قال: أنا أريد العلم، ولا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي، فأريد أن أعلم كيف خَلَقَه! نقول: نحن نسألك أسئلة سهلة.
السؤال الأول: هل أنت أحرص على العلم من الصحابة رضي الله عنهم؟! فهو إما أن يقول: نعم.
وإما أن يقول: لا.
والمتوقع أن يقول: لا.
السؤال الثاني: هل الذي سألته أعلم بكيفية صفات الله عزَّ وجلَّ أم الرسول عليه الصلاة والسلام؟! سيقول: الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الصحابة أحرص منك على العلم، والمسئول الذي وجَّهوا إليه السؤال أعلم من الذي تسأله أنت، ومع ذلك ما سألوه؛ لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عزَّ وجلَّ، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم: إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامُنا وعقولُنا بكيفيات صفاته، وقال الله عزَّ وجلَّ في كتابه في الأمور المعقولة: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] وفي الأمور المحسوسة: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] .
فنقول: يا أخي! الزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده، فإن هذا بدعة.
وكذلك الحال في بقية الصفات، فلو سأل: كيف عين الله عزَّ وجلَّ؟! قلنا له: هذا بدعة.
ولو سأل: كيف يد الله عزَّ وجلَّ؟ قلنا له: هذا بدعة.
وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عزَّ وجلَّ وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع، متنطِّع، سائلٌ عما لا يمكن الوصول إليه.
فموقفنا من مثل هذه الآية {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أن نؤمن بأن الله يجيء؛ لكن على أي كيفية؟ الله أعلم.
ولو قال قائل: هل يحتمل أن يكون مجيئُه كمجيء الإنسان العادي، أو كمجيء الملِك إلى مكان الاحتفال؟!
صلى الله عليه وسلم نحن نعلم أنه لا يكون، والدليل: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فنحن نعلم النفي، ولا نعلم الإثبات، أي: نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر؛ ولكننا لا نثبت الكيفية، وهذا هو الواجب علينا.
الأمر الثاني: صفوف الملائكة: قال تعالى: {وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} (أل) هنا: للعموم، أي: جميع الملائكة يأتون فينزلون ويحيطون بالخلق، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم ملائكة السماء الثانية، وهلم جراً، يحيطون بالخلق إظهاراً للعظمة، وإلا فإن الخلق لا يمكن أن يفروا يميناً ولا شمالاً؛ لكن إظهاراً لعظمة الله وتهويلاً لهذا اليوم العظيم تنزل الملائكة فيحيطون بالخلق.
وهذا اليوم يوم مشهود، يشهده الملائكة والإنس والجن والحشرات وكل شيء، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] فهو يوم عظيم لا ندركه الآن ولا نتصوره؛ لأنه أعظم مِمَّا يُتَصَوَّر.
فبعد أن عرفنا الأمر الأول، وهو: مجيء الله تعالى.
ثم الأمر الثاني، وهو: صفوف الملائكة.
نعرف الأمر الثالث هذا اليوم، وهو: المجيء بجهنم: