Q فضيلة الشيخ! إذا ندب الله عز وجل إلى أمر من الشريعة ندباً عاماً كالدعوة إلى الله مثلاً، ومنع من إيقاعه ولي الأمر، فهل يستجاب لولي الأمر في هذا مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) مع الضابط إذا تيسر جزاك الله خيراً؟
صلى الله عليه وسلم إذا قال ولي الأمر لشخص مثلاً: لا تدعُ إلى الله، فإن كان لا يقوم أحد سواه بهذه المهمة فإنه لا يطاع ولي الأمر في ذلك؛ لأنها تكون فرض عين على هذا الشخص، ولا طاعة لولي الأمر في ترك فرض عين.
أما إذا كان يقوم غيره مقامه، نظرنا: إذا كان ولي الأمر نهاه لأنه يكره دعوة الناس، فهنا يجب أن يناصح ولي الأمر في هذا، ويقال: اتق الله، لا تمنع من إرشاد عباد الله.
أما إذا كان نهيه هذا الشخص لسبب آخر يحدث من جراء كلام هذا الرجل، ورأى ولي الأمر أن المصلحة في إيقافه، وغيره قائم بالواجب؛ فإنه لا يحل لهذا أن ينابذ ولي الأمر، وقد كان عمار بن ياسر رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب في سفره فأجنب عمار -أي: أصابته جنابة- فجعل يتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة -يعني: تقلب على الأرض ليشمل التراب جميع بدنه- ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) وأراه التيمم.
ثم جاءت خلافة عمر [وصار عمار يحدث بذلك، فاستدعاه عمر رضي الله عنه يوماً من الأيام، وقال: كيف تحدث بهذا الحديث؟ لأن عمر يرى أن الجنب لا يتيمم، وأن التيمم في الحدث الأصغر فقط، ومن عليه جنابة ينتظر حتى يجد الماء ثم يغتسل ويصلي هذا رأيه.
فقال له عمار: يا أمير المؤمنين! أما تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا؟ فكأن عمر نسي هذا، فقال له: يا أمير المؤمنين! إن شئت بما جعل الله لك عليَّ من الطاعة ألا أحدث به فعلت.
فقال له عمر: لا.
نوليك ما توليت] يعني: فحدث به، والشاهد أنه ما أنكر عليه قوله: [إن شئت بما جعل الله لك علي من الطاعة ألا أحدث به فعلت] .
أما لو قال ولي الأمر مثلاً: لا تصل النافلة.
فنقول: صلها، لكن بدون منابذة، صلها في بيتك؛ لأن منابذة ولي الأمر يترتب عليها مفاسد كثيرة، لا بالنسبة لك أنت أيها المنابذ؛ لأنك -أنت أيها المنابذ- ربما تؤخذ وتؤذى، وأنت تعتقد أنك أوذيت في الله، لكن غيرك أيضاً يصاب بهذه المنابذة، وربما يقتدي بك غيرك ممن لا يعرف ما عرفت فينابذ بدون علم، وربما تُتحسس أخبار من حولك، ويؤتى بكل إنسان حولك ويؤذى بدون جريمة.
ثم إن الحط من قدر ولاة الأمور من العلماء أو الأمراء في أعين الناس له ضرر كبير؛ لأن قدر ولاة الأمور إذا سقط من أعين الناس تمرد الناس على ولي الأمر ولم يروا لأمره قيمة، وصاروا يرونه كسائر الناس، وإذا انحط قدر العلماء في أعين الناس لم يكن لما يقولونه للناس من شريعة الله قيمة، ولم يثق الناس بأقوالهم، ونبذت الشريعة من هذا الجسر؛ لأن قدرهم هُوِّن في أعين الناس، فصار الناس لا يبالون بهم، ولا يأخذون بأقوالهم، ويذهبون يأخذون من فلان وفلان ممن هو دونهم في فقه شريعة الله عز وجل.
فهذه الأمور لا ينبغي لنا أن ننظر إلى ظاهرها وسطحها؛ لأن لها غوراً بعيداً عميقاً، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ولاة الأمور الذين يطالبون بحقهم ويضيعون حق الله في رعيتهم فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطوهم ما لهم واسألوا الله حقكم) حتى لو منعونا حقنا فنحن نعطيهم ما لهم علينا، ونسأل الله سبحانه وتعالى حقنا، وذلك بأن يهديهم حتى يقوموا به.
فينبغي لنا أيها الإخوة! ألا ننظر إلى الأمور من سطحيتها فقط؛ بل ننظر لما يترتب عليها من المفاسد العظيمة؛ والأمن حتماً له قيمة، فالدنيا كلها تبذل في سبيل الأمن، ويضحي الإنسان من نفسه بأشياء كثيرة من أجل الأمن، ولا يعرف قدر الأمن إلا من ابتلي بالخوف، واسألوا آباءكم الأولين عما كانت عليه هذه البلاد من الخوف فيما سبق؟! كان الناس لا يذهبون من بريدة إلى عنيزة أو من عنيزة إلى بريدة إلا مسلحين، وعلى خوف شديد؛ بل قال بعض الكبار: كنا -والله نخرج- في رمضان من بيوتنا بعد العشاء بل بعد المغرب ونحن نحمل السلاح.
يخافون على أنفسهم من عدو يدخل البلد أو غير ذلك، فنعمة الأمن والرخاء لا يساويها نعمة، وإذا انفلت الأمن من يرده؟ فيجب علينا أن نتجنب كل ما يثير الناس، ونحن لا نبرئ ولاة الأمور من الخطأ، ولاة الأمور من العلماء والأمراء عندهم خطأ كثير، لكن جاء في الأثر: (كما تكونوا يولِّ عليكم) .
انظروا إلى أحوال الناس، فمن حكمة الله أن الولي والمولى عليه يكونون متساويين كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] كذلك يولي الله على الصالحين الصلحاء، وإذا نظرنا إلى أحوال الرعية وجدنا أنفسنا نحن الرعية عندنا تفريط في الواجبات وإخلال وتهاون، وتهافت على المحرمات، نجد الغش في المعاملات، والكذب والتزوير وشهادة الزور وأشياء كثيرة، فلو أن الإنسان تعمق وسلط الأضواء على حال المجتمع الإسلامي اليوم لعرف القصور والتقصير، فالمجتمع الإسلامي مجتمع صدق ووفاء وأمانة، وكل هذه مفقودة الآن إلا ممن شاء الله.
فإذا أضعنا نحن الأمانة فيما نحن أمناء فيه -وليس عندنا ولاية كبيرة- فكيف من له ولاية أمرنا؟ قد يكون أشد منا إضاعة للأمانة، لكن استقيموا يول الله عليكم من يستقيم.
ثم إن الأولى أيضاً، بل إن لم أقل الواجب أن ندعو لولاة الأمور سراً وعلناً، أن ندعو لهم بالتوفيق والصلاح والإصلاح؛ لأنهم ولاة أمورنا، أعطيناهم البيعة، فلابد أن نسأل الله لهم الصلاح حتى يصلح الله بهم، ويذكر أن الإمام أحمد رحمه الله قال: (لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان) لأنه إذا صلح السلطان صلحت الأمة، وهذا صحيح.
فالواجب علينا -يا إخواني- ألا نيأس، وأن ندعو لولاة أمورنا أن يصلح الله لهم الأمور، وأن يعينهم على ما حملهم، وأن يبعد عنهم كل بطانة سوء؛ لأن ولي الأمر ليس وحده فله أعوان، وله وزراء، وله جلساء، تدعو الله أن يوفقه بجليس صالح وعون صالح، ووزير صالح، فهو من توفيق الله له وللرعية، وإن كان الأمر بخلاف ذلك فهو من شؤمه وشؤم الرعية.
ولهذا يجب أن ندعو الله لولاتنا أن يوفقهم للصلاح والإصلاح، وأن ييسر لهم البطانة الصالحة، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
السائل: أحسن الله إليك: هل الكفاية قامت بدعوة الناس إلى الله عز وجل في أقطار الإسلام؟ الشيخ: لا.
لم تقم، لكن بلادنا -والحمد لله- فيها من يقوم بهذا؛ أكثر المتولين للمنابر اليوم -ولاسيما في المدن- كلهم طلبة علم، وكلهم -والحمد لله- يوجهون الناس توجيهاً هادفاً تحصل به الكفاية، صحيح أن في القرى من لا تحصل به الكفاية، ولكن اتقوا الله ما استطعتم، ولو أن كل قرية فيها طالب علم يعتمد عليه يرجع الناس إليه في الفتاوى والوعظ وغيره من أمور دينهم ودنياهم لكان جيداً، لكن ليس الأمر باليسير.
أما عن البلاد الإسلامية الأخرى فحدث ولا حرج، الخلل فيها كثير! خلاصة الفتوى: أنه يجب على من قيل له: لا تتكلم، ألا يتكلم، إلا إذا تعين الأمر عليه، إذا تعين فإنه يجب عليه أن يعصي ولي الأمر؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
السائل: أحسن الله إليكم يا شيخنا: أنتم تذكرون الآن أن الكفاية لم تقم في ديار الإسلام.
وليست الدعوة حكراً على بلد معين أو حدود معينة! الشيخ: على كل حال نحن لا نرى أن يمنع إنسان من أن يسافر إلى بلد آخر، إذا كان يريد أن يدعو إلى الله، لكن إذا كانت طريقة دعوته إلى الله هناك طريقة دعوته إلى الله في بلادنا بحيث يكون غير مؤهل في علمه وتصرفه، فلولي الأمر أن يمنعه؛ لأن العلة كلها هي عبارة عن أشياء ربما توجب للناس وللرعية كراهة أولياء الأمور أو ما أشبه ذلك.