الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير من شهر رجب عام (1414هـ) ، وهو اللقاء الأسبوعي الذي يكون كل خميس، وسيكون هذا آخر لقاء قبل الإجازة، وتستأنف اللقاءات -إن شاء الله- بعد استئناف الدراسة في آخر شعبان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح.
كنا بصدد أن ننتهي من تفسير سورة الأعلى، ولكن لعل المناسب في هذه الجلسة أن يكون هناك توجيه للناس لما سيفعلونه في هذه الإجازة.
فنقول ومن الله تعالى التوفيق: لا شك أن ساعات العمر أغلى من الدنانير والدراهم؛ لأن ساعات العمر تفوت ولا يمكن استرجاعها أبداً، وكل يومٍ يمضي فإنه يبعدنا من الدنيا ويقربنا إلى الآخرة، فتسير الأيام وتنقضي الساعات وتمضي السنوات وإذا بالإنسان ينتهي إلى الأجل المحتوم الذي قال الله تعالى عنه: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] وإذا كانت هذه منزلة العمر وساعاته؛ فإن الواجب على العاقل فضلاً عن المؤمن أن يستغل هذه الساعات فيما خُلق له، والذي خلقنا له جميعاً هو عبادة الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
والعبادة: اسم لكل ما يقرب إلى الله تعالى من قول أو عمل؛ سواء كان عمل الجوارح الظاهرة أو عمل القلب، وسواء كان قول اللسان الذي ينطق به أو قول القلب الذي هو الاعتقاد، فكل ما يقرب إلى الله فهو عبادة، والله تعالى لا يريد منا أن نبقى دائماً في صلاة، أو نبقى دائماً محبوسين في المساجد للذكر والقراءة؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقد بلغه أن قوماً من أصحابه قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ألا إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) .
وعلى هذا فنقول: إنه لا حرج على الإنسان أن يمتع نفسه بما أحل الله تعالى له من النعم؛ حتى يذهب عنه السآمة والملالة والتعب، لكن بشرط أن يكون فيما أحل الله له، وهذه الإجازة التي قررت للدارسين والمدرِّسين في أثناء العام ما هي إلا لهذا الغرض؛ لدفع الملل والسآمة والتعب، ولإعطاء النفس حظها مما أباح الله لها.
ينقسم الناس في هذه الإجازة إلى أقسام: - منهم من يستغلها بالسفر إلى بيت الله الحرام وإلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل التحية والسلام.
- ومنهم من يستغلها بالسفر لزيارة الأقارب والأرحام.
- ومنهم من يستغلها للتجول في الدعوة إلى الله عز وجل وإرشاد الناس وتوجيههم.
- ومنهم من يستغلها للتفرغ في استعادة ما مضى من طلب العلم، واستذكار ما نسي من القرآن.
- ومنهم من يستغلها في مساعدة أبيه في بيع أو شراء أو حرث أو غير ذلك.
- ومنهم من يستغلها في الخروج إلى البر والتنزه على وجهٍ يكون مباحاً.
- ومنهم من يستغلها في الخروج إلى البر والتنزه لكن على وجهٍ محرم، يمضون أوقاتهم إما في مشاهدة ما يعرض في التلفاز من البرامج التي ترد إلينا من الخارج، إما عن طريق أشرطة الفيديو، أو عن طريق الدش الذي يلتقط كل شيء مما يفسد الأديان، ويهدم الأخلاق.
فهؤلاء خسروا الدنيا والآخرة خسروا الدنيا لأنهم لم يعملوا في هذه المدة فيما يرضي الله عز وجل، اللهم إلا في أداء الفرائض التي لابد منها كالصلاة والطهارة.
وخسروا الآخرة؛ لأن هذه المعاصي تكون سبباً لتعذيبهم وعقوبتهم في الآخرة، وربما تتراكم المعاصي على القلب حتى يختم عليه والعياذ بالله، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:13] أي: إذا تلي عليه القرآن وما فيه من عبر وعظات قال: هذا كلام مجالس وقصص لا حقيقة لها، {كَلَّا} [المطففين:14] أي: ليس القرآن أساطير الأولين {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] حتى لم يذوقوا طعم القرآن -نسأل الله العافية- فالمعاصي بريد الكفر كما قال العلماء رحمهم الله.
- ومن الناس من يستغل الإجازة في أخبث من هذا؛ في السفر إلى الخارج إلى بلاد الفساد والمجون، فيفعل هناك ما شاء من أنواع المعاصي، وغالباً أنه يدع الصلاة؛ فيخسر خسارة فادحة -والعياذ بالله- فيرجع وقد خسر الدنيا والآخرة، مظلم الوجه مسود القلب.
فالمهم أن الناس لهم نزعات وطرق في قضاء هذه الإجازة.
فالواجب على الإنسان العاقل أن يستغل وقته بما يكون سبباً لرضا ربه عز وجل، حتى إذا أتاه الموت أتاه وهو على أحسن ما يكون؛ لأن من ابتلي بالمعاصي في حال صحته وعنفوان شبابه ربما يستمر على هذه المعاصي، فإذا جاء وقت الحاجة إلى الطاعة إذا هو مفلس صفر اليدين، لا يتمكن من نطق الشهادة حال الموت نسأل الله العافية! فالإنسان العاقل ينظر في أيامه ولياليه بماذا أمضاها هل في طاعة الله تعالى أم في معصيته؟ فإن كان في طاعة الله فليحمد الله على ذلك، وليستمر عليه، وليسأله الثبات على ذلك إلى الموت، وإن كان على خلاف ذلك فليسارع بالتوبة والإنابة في وقت الإمكان؛ لأنه حين الموت لا ينفع الندم، ولا تفيد التوبة.
فأدعوكم ونفسي لاستغلال هذه الإجازة فيما يرضي الله عز وجل، وقد عرفتم ما يسر الله لنا ذكره من الأقسام التي يتوزع الناس عليها في هذه الإجازة، فأحث نفسي وإياكم على استغلالها فيما يرضي الله، بعبادة الله، وبنفع الخلق، وإعطاء النفس شيئاً من المتعة على وجهٍ مباح وهكذا.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن عمروا أوقاتهم بطاعة ربهم، وأن يثبتنا على ذلك حتى الممات، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.