ثم قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] (الكادح) هو الساعي بجد ونوع مشقة، وقوله: (إلى ربك) يعني: إنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، انتبه! كدحاً يوصل إلى الله يعني: أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله؛ لأننا سنموت، وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى إلى الله عز وجل {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] ، ولهذا قال: {كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً} [الانشقاق:6] حتى العاصي كادح، غايته الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25-26] لكن الفرق بين المطيع والعاصي: أن المطيع يعمل عملاً يرضي الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملاً يغضب الله؛ لكن مع ذلك أين ينتهي؟ إلى الله عز وجل.
إذاً قوله تعالى: (يا أيها الإنسان) يعم كل إنسان، مؤمن أو كافر.
{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] يقول النحويون: الفاء تدل على الترتيب والتعقيب، أي: فأنت ملاقيه عن قرب، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:134] وكل آتٍ قريب {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17] .
وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة؛ فانظر ما مضى من عمرك الآن، فلو مضى عليك مائة سنة؛ كأنما هذه المائة السنة ساعة واحدة، كل الذي مضى منها كأنه ساعة واحدة، إذاً هو قريب.
وإذا مات الإنسان أتظنون أن البرزخ الذي بين الحياة الدنيا والآخرة طويل؟! هو قريب كاللحظة، فالإنسان إذا نام نوماً هادئاً، ولنقل أربعاً وعشرين ساعة وقام كم يقدر النوم؟ دقيقة واحد، مع أنه يمكن أن يكون نام أربعاً وعشرين ساعة، فإذا كانت مفارقة الروح في الحياة يمضي بها الوقت بهذه السرعة؛ فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم؟! ستمر ملايين السنين على الإنسان وكأنها لا شيء؛ لأن امتداد الزمان في حالة يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حالة نومنا، فالإنسان القائم من طلوع الشمس إلى زوالها يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً ما أحس بذلك الطول.
ألم تر إلى الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259] .
وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وتسعاً، فلما بعثوا قال بعضهم لبعض كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذا يدل على أنه لا عجب أن ملايين السنين تذهب على هؤلاء الأموات وكأنها دقيقة واحدة؛ لأن حال الإنسان بعد أن تفارق روحه بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن؛ لأنه يعاني من المشقة والمشاكل والهواجس، والوساوس، أشياء تطيل عليه الزمن، ولكن في النوم يتقلص الزمن كثيراً، وفي الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا ولهم ملايين السنين، أو آلاف السنين؛ كأنهم لم يموتوا إلا اليوم، ولو بعثوا وقيل لهم كم لبثتم؟ لقالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم.
وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع، مهما طالت المدة لأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال: (فملاقيه) فأتى بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل! ثم قسم الله عز وجل الناس إلى قسمين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم، ومنهم من يأخذ كتابه وراء ظهره.