اختلفوا في معنى قوله: "لا عدوى" وأظهر ما قبل في ذلك: أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك ويدل على هذا قوله: "فمن أعدى الأول؟ " يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده.

خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يعدي شيئا" قالها ثلاثا فقال أعرابي: يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فما أجرب الأول لا عدوى ولا هامة ولا صفر خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها" فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح وأمره بالفرار من المجذوم ونهيه عن الدخول إلى موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابا للهلاك أو الأذى.

والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان عافية منها فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو يدخل تحت الهدم ونحوه مما جرت العادة بأنه يهلك أو يؤذى فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم أو القدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره.

وقد روي في حديث مرسل خرجه أبو داود في مراسيله أن النبي صلى الله عليه وسلم: مر بحائط مائل فأسرع وقال: "أخاف موت الفوات" وروي متصلا والمرسل أصح وهذه الأسباب التي جعلها الله أسبابا يخلق المسببات بها كما دل عليه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] وقالت طائفة: إنه يخلق المسببات عندها لا بها.

وأما إذا قوي التوكل على الله تعالى والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما إذا كان مصلحة عامة أو خاصة وعلى مثل هذا يحمل الحديث الذي خرجه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال: "كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه" وقد أخذ به الإمام أحمد وقد روي نحو ذلك عن عمر وابنه عبد الله وسلمان رضي الله عنهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015