ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم": محمولا على التطوع المطلق بالصيام فأما ما قبل رمضان وبعده فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث "وأفضل الصلاة بعد المكتوبة: قيام الليل" إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية والله أعلم.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما" ولم يصم كذلك بل كان يصوم سردا ويفطر سردا ويصوم شعبان وكل اثنين وخميس؟ قيل: صيام داود الذي فضله النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بأنه صوم شطر الدهر وكان صيام النبي صلى الله عليه وسلم إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد عليه وقد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة وإنما كان يفرق صيامه ولا يصوم يوما ويفطر يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة ولا يضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم ويوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة وتبليغها والجهاد عليها والقيام بحقوقها فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طوقت ذلك" وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم من صيام شطر الدهر فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه المتفرق وحصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك وإنما عاقه عنه الإشتغال بما هو أهم منه وأفضل والله أعلم.
وقد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي صلى الله عليه وسلم لشعبان دون غيره من الشهور وفيه معان أخر: وقد ذكر منها النبي في حديث أسامة معنيين:
أحدهما: أنه شهر "يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا؟ فقال: "فأين هم عن شعبان".
وفي قوله: "يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" إشارة إلى أن بعض ما.