ثبت علمياً وشرعياً أي: نقلاً وعقلاً واستقراء أن الروح لها أطوار مع الجسد كالتالي: الطور الأول: أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، فأبونا آدم -عليه السلام- خلق جسداً قبل أن يخلق روحاً، فقد خلق آدم عبر مراحل ثلاث بيناها في لقاءات سبقت، وهي الترابية والطينية والفخارية، ثم نفخ الله جل وعلا فيه من روحه، وإضافة الروح هنا إلى رب العزة والجلال إنما هي إضافة تشريف.
أما بني آدم فقد كان خلق أرواحهم مقدماً على خلق أجسادهم؛ ولهذا مسح الله جل وعلا على ظهر أبينا آدم وأخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، فهذا عالم الذر، أو عالم الأرواح الأول، والذي جاء فيه الحديث الذي عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما مسح على ظهر آدم أخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة، فرأى في عيني أحدهم وبيصاً من نور قال: يا رب! من هذا؟ فقال الله جل وعلا له: هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان، يقال له: داود)، إلى آخر الحديث.
الذي يعنينا أن هذا هو الطور الأول في خلق الأرواح.
الطور الثاني: خلق الله جل وعلا أجساداً من نطفة من ماء مهين، وكذلك كتب الله جل وعلا أن يخلق بنو آدم، ثم يكون ذلك الملك الذي يوكل إليه نفخ الروح في الجسد، فإذا التأم الروح مع الجسد دبت الحياة، فتشعر الأم وهي حامل بأن الحياة تدب في جنينها الذي في بطنها، وأنه يتحرك، وهذا لا يكون إلا بعد أربعة أشهر من الحمل، كما ثبت بذلك الحديث الصحيح، وهو أيضاً ثابت طبياً، وسواء ثبت طبياً أم لم يثبت، فقد أخبر بذلك المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
وتأمل -أيها المبارك- عناية الله جل وعلا بالروح، فالروح ينفخها في الأجساد ملك، وكذلك يأتي ملك إذا كتب الله الموت فينزع الروح.
المقصود: أن هذا طور من أطوار علاقة الروح بالجسد، والمرء يوم ذاك جنين في بطن أمه.
الطور الثالث: إذا كتب الله لذلك الجنين أن يبقى ويحيا، فيخرج بعد فترة حمل، وغالبها تسعة أشهر، فإذا خرج نجم من ذلك التواصل والتوافق بين الروح والجسد طوراً ثالثاً، خلاف الطور الذي كان وهو جنين في بطن أمه.
وفي هذا الطور لا يعقل المولود ولا يدري شيئاً، ويمضي معه الطور حتى يصل إلى مرحلة البلوغ، فإذا وصل مرحلة البلوغ ذكراً كان أو أنثى جرى عليه قلم التكليف.
والروح إذا دبت في الجسد وهي داخله فالأفضل أن يطلق عليها نفس، قال ربنا جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، وقد أخبر الله جل وعلا أن هذه النفس تطالب يوم القيامة بإظهار الحجج، وتجادل عن نفسها كما قال الله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]، فأخبر الله جل وعلا أن النفوس تجادل عن نفسها يوم القيامة.
إذاً: فما دام الإنسان حياً والروح متصلة بالجسد فتسمى نفساً، فإذا فارقت الجسد وفارقت النفس الحياة، فلا تسمى حينئذٍ نفساً، أي: عند فراق الروح الجسد لا تسمى الروح نفساً، وإنما تسمى روحاً، ومن الأدلة على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم (لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه وأرضاه -وهو أول من دفن من المهاجرين في البقيع- أغمض النبي صلى الله عليه وسلم عيني عثمان وقال: إن الروح إذا صعد تبعه البصر)، فسماها روحاً؛ لأنها خرجت من الجسد.
الطور الرابع: ما بعد الموت، وما الموت؟ الموت: أن تفارق الروح الجسد، فإذا فارقت الجسد انطلقت أو ذهبت إلى طور آخر غير الطور الذي كانت في اتصال بالبدن، فيكون هناك طور آخر، وهو المعروف بحياة البرزخ، قال الله تبارك وتعالى عنه: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، والبرزخ دائماً -أيها المبارك- يكون فاصلاً بين شيئين، قال الله جل وعلا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، أي: فاصل بينهما.
أتسمعون عن وادي محسر؟ هو واد ما بين مزدلفة ومنى، وهو برزخ ما بين منى ومزدلفة، أي: فاصل بينهما.
المقصود من هذا: أن حياة البرزخ تكون علاقة الروح بالجسد علاقة شبه كلية، لكننا لا نعرف كنهها؛ لأننا لم نصل إليها، والأموات الذين سبقونا إلى ربنا فوصلوا إليها لم يعودوا حتى يخبرونا، وما بين أيدينا من النقل الصحيح هو المعتمد الوحيد في هذا الباب، كقول الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21] إلى أن قال ربنا: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فأهل القبور يعيشون حياة حق، ويطلعون على أمور حق، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعضها، كإخباره صلى الله عليه وسلم عمن يكذبون، وعمن تتثاقل رءوسهم عن الصلاة، وعمن يأكلون الربا، وغيرهم ممن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، إما رآهم في رؤيا أو مر عليهم في رحلة الإسراء والمعراج.
والمقصود من هذا كله: أن هناك طوراً من أطوار حياة الروح يتعلق بفترة البرزخ.