لقدْ جاءَ رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناسِ بالدعوةِ الربانيةِ، ولم يكنْ له دعايةٌ منَ دنيا، فلمْ يُلقَ إليه كَنْزٌ، وما كانتْ له جنَّة يأكلُ منها، ولم يسكنْ قصراً، فأقبلَ المحبُّون يبايعون على شظفٍ من العيشِ، وذروةٍ من المشقَّةِ، يوم كانوا قليلاً مستضعفين في الأرضِ يخافونَ أنْ يتخطفهمُ الناسُ من حولِهمْ، ومع ذلك أحبَّهُ أتباعُه كلَّ الحبِ.
حُوصروا في الشِّعْبِ، وضُيِّق عليهمْ في الرزقِ، وابتُلوا في السمعةِ، وحُوربوا من القرابةِ، وأُوذُوا من الناسِ، ومع هذا أحبُّوه كلَّ الحبِّ.
سُحِبَ بعضُهم على الرمْضاءِ، وحُبسَ آخرونَ في العراءِ، ومنهمْ منْ تفنَّنَ الكفارُ في تعذيبهِ، وتأنَّقوا في النكالِ بهِ، ومعَ هذا أحبُّوه كلَّ الحبِّ.
سُلبوا أوطانهم ودورهم وأهليهم وأموالهم، طُردوا من مراتعِ صباهمْ، وملاعبِ شبابهمْ ومغاني أهلهِمْ، ومع أحبوهُ كلَّ الحبِّ.
ابُتلي المؤمنون بسببِ دعوتِه، وزُلْزِلوا زلزالاً شديداً، وبلغتْ منهمْ القلوبُ الحناجرَ وظنُّوا باللهِ الظنونا، ومعَ أحبوه كلَّ الحبِّ.
عُرِّضَ صفوةُ شبابهمْ للسيوفِ المُصْلَتَةِ، فكانتْ على رؤوسِهِم كأغصانِ الشجرةِ الوارفةِ.
وكأنَّ ظلَّ السيفِ ظِلُّ حديقةِ ... خضراء تُنْبِتُ حولنا الأزهارا