إنَّ الطالبَ الذي عاشَ حياةَ الدَّعةِ والراحةِ ولم تلْذعْهُ الأَزَمَاتُ، ولمْ تكْوِهِ المُلِمَّاتُ، إنَّ هذا الطالبَ يبقى كسولاً مترهِّلاً فاتراً.
وإنَّ الشاعر الذي ما عرفَ الألمَ ولا ذاقَ المر ولا تجرَّع الغُصَصَ، تبقى قصائدهُ رُكاماً من رخيصِ الحديثِ، وكُتلاً من زبدِ القولِ، لأنَّ قصائدَهُ خرجَتْ من لسانِهِ ولم تخرُجْ من وجدانِهِ، وتلفَّظ بها فهمه ولم يعِشْها قلبُه وجوانِحُهُ.
وأسمى من هذهِ الأمثلةِ وأرفعُ: حياةُ المؤمنين الأوَّلين الذين عاشوا فجْرَ الرسالةِ ومَولِدَ الملَّةِ، وبدايةَ البَعْثِ، فإنهُم أعظمُ إيماناً، وأبرُّ قلوباً، وأصدقُ لهْجةً، وأعْمقُ عِلمْاً، لأنهم عاشوا الأَلَمَ والمعاناةَ: ألمَ الجوع والفَقْرِ والتشريدِ، والأذى والطردِ والإبعادِ، وفراقَ المألوفاتِ، وهَجْرَ المرغوباتِ، وألمَ الجراحِ، والقتلِ والتعذيبِ، فكانوا بحقٍّ الصفوة الصافيةَ، والثلَّةَ المُجْتَبَاةَ، آياتٍ في الطهرِ، وأعلاماً في النبل، ورموزاً في التضحية، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
وفي عالم الدنيا أناسٌ قدَّموا أروعَ نتِاجَهُمْ، لأنهم تألمَّوا، فالمتنبي وعَكَتْه الحُمَّى فأنشدَ رائعته:
وزائرتي كأنَّ بها حياءَ ... فليسَ تزورُ إلاَّ في الظلامِ