أما قتال الملائكة مع المؤمنين في بدر، فلم يكن هو في ذاته الخارقة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12) . فنزول الملائكة وتثبيتهم للبشر، لا يقتصر على معركة بدر، إنما قد يحدث بأمر الله في أية مناسبة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (فصلت: 30-31) .
إنما كانت الخارقة هي رؤية المؤمنين للملائكة وهي تقاتل معهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: 126) .
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختص بها أهل بدر من دون المؤمنين، فقد كانت بدر حدثا كونياً لا يتكرر كل يوم: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الأنفال: 41) . فهي التي كتبت التاريخ، وليس في كل يوم يكتب التاريخ. إنما تكتب منه سطور إثر سطور!
وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية، من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجهنا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية، ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هادياً لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكاً لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه.