وكان غير ذلك من القضايا مادة مفيدة في تجميع الجماهير وإثارة حماستهم، ثم استمالة الناس للدعوة من خلال تلك القضايا العامة، التي تستهوي بطبيعتها كثيراً من الناس، فيتجمعون لها بسهولة، ويلتفون حول من ينادى بها، ويمنحونه ودهم وحماستهم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بتوجيه من الوحي الرباني - لم يثر أية قضية من هذه القضايا في فترة التربية بمكة؛ وإنما أثار القضية الواحدة التي جلبت له عداء ((السادة)) وبالتبعية عداء الجماهير، وظل مصرا عليها وحدها، حتى أذن الله أن تتفتح لها قلوب أفضل الخلق بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
ولم يكن ذلك لأن هذه القضايا كلها ليس لها أهمية في حياة الأمة، كلا! فقد تناولتها الحركة الإسلامية كلها واحدة إثر الأخرى؛ ولكن لأن القضية الكبرى - في المنهج الرباني وفي واقع البشر - هي قضية لا إله إلا الله، التي يتوقف عليها منهج حياة الإنسان في الدنيا، ومصيره في الآخرة، ولأن قضايا الحياة كلها - في المنهج الرباني - يجب أن تكون نابعة من لا إله إلا الله، ومرتبطة بها ارتباطاً حيوياً، فيتوفر لها الصدق والإخلاص والتجرد. ومن ثم جرى المنهج الرباني على تحرير قضية لا إله إلا الله أولاً، وتجريدها من أي شيء يمكن أن يشوبها في مرحلة التكوين، لتكون عبادة خالصة لله، هدفها رضوان الله وحده، حتى إذا تمحضت في قلوب أصحابها، وصلت بها كل قضايا الأرض اللازمة لحياة الأمة، دون خشية من اختلاط الأمور في تلك القلوب، بينما الخشية قائمة في مرحلة التكوين، وحين يحدث الاختلاط في المنشأ، فما أسرع ما تغلب مصالح الأرض، وتصبح مداخل للشيطان!
هل تجردت قضية لا إله إلا الله في قلوب الدعاة أنفسهم - ودع عنك الآن قلوب الجماهير - فتمحضت لتقرير العبودية الخالصة لله، غير مختلطة بقضايا القومية والوطنية والعدالة الاجتماعية، والدعاة - من أجل استمالة الجماهير - يتحدثون عن ((اشتراكية الإسلام)) ، ((وديمقراطية الإسلام)) ، و ((التعددية في الإسلام)) ؟
* * *
هل تم تحرير قضية الشرعية، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟