والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولذقت بعد كرامة بهواني
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني
ولقد مننت عليّ ربَّ بأنعم ما لي بشكر أقلهن يدان
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طَعِم وغسل يده - أو قال يديه - قال: «الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من َّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودّع ربي، ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العُري، وهدى من الضلالة، وبَصَّر من العَمى، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلا، الحمد لله رب العالمين» (?).
فلتكن - أخي - مناجاتنا لله بالثناء عليه ومدحه، والاعتراف بنعمه، ولنداوم على ذلك حتى نذوق حلاوة حبه فنصل من خلال المناجاة إلى استشعار قربه منا وكأننا نراه فنكلمه على الحضور.
ومن أفضل أوقات المناجاة على الإطلاق ذلك الوقت الذي يجد فيه المرء قلبه حاضرًا معه، ومشاعره متأججة ومتجهة نحو ربه.
أما أفضل الأوقات بالنسبة لساعات الليل والنهار، فمما لا شك فيه أن المناجاة بالليل خاصة في جوفه ونصفه الأخير لها تأثير عجيب على القلب، وكيف لا وقد وصفها الله بذلك: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6].
فأفضل الأوقات التي يمكن أن يحدث فيها مواطأة بين القلب واللسان هي ساعات الليل، قال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر» (?).
وفي هذا المعنى يقول الإمام حسن البنا - رحمه الله -: يا أخي لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام، والخَليُّون هجع، قد سكن الليل كله، وأرخى سدوله، وغابت النجوم، فتستحضر قلبك، وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك فتأنس بحضرته، ويطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته (?).
وروى أبو نعيم بإسناده عن حسين بن زياد قال: أخذ فضيل بن عياض بيدي فقال: يا حسين ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه، ها أنذا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل مثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على الحضور، غدًا أقر أعين أحبابي في جناتي» (?).
وعن عنبسة بن الأزهر قال: كان محارب بن دِثار، قاضي أهل الكوفة، قريب الجوار مني، فربما سمعته في بعض الليل يقول وهو يرفع صوته:
«أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الضعف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الغريب الذي وصلته فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي مَوَّلته فكل الحمد، وأنا العَزب الذي زوجته فلك الحمد، وأنا السَّاغبُ الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي أدَّيته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، فلك الحمد ربنا حمدًا كثيرًا على حمدٍ لك» (?).