هُنَا حِسَابُ النُّجُومِ وَتَسْيِيرِهَا وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِلاَّ النَّزْرَ اليَسِيرَ. فَعَلَّقَ الحُكْمَ بِالصَّوْمِ وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ لِرَفْعِ الحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيرِ، وَاسْتَمَرَّ الحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ. بَلْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الحُكْمِ بِالحِسَابِ أَصْلاً. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الحَدِيثِ المَاضِي: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاَثِينَ " وَلَمْ يَقُلْ: فَسَلُوا أَهْلَ الحِسَابِ وَالحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ العَدَدِ عِنْدَ الإِغْمَاءِ يَسْتَوِي فِيهِ المُكَلَّفُونَ، فَيَرْتَفِعُ الاِخْتِلاَفُ وَالنِّزَاعُ عَنْهُمْ وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِ التَّسْيِيرِ فِي ذَلِكَ وَهُمُ الرَّوَافِضُ (?) وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الفُقَهَاءِ مُوَافَقَتُهُمْ، قَالَ البَاجِيُّ: " وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالح حجَّة عَلَيْهِم "، وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: " وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنِ الخَوْضِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ لأَنَّهَا حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ لَيْسَ فِيهَا قَطْعٌ وَلاَ ظَنٌّ غَالِبٌ مَعَ أَنَّهُ لَوِ ارْتَبَطَ الأَمْرُ بِهَا لَضَاقَ، إِذْ لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ القَلِيلُ "».
فهذا التفسير صواب , في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب , والتأويل خطأ , في أنه لو حدث من يعرف استمر الحكم في الصوم (أي باعتبار الرؤية وحدها) لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء مُعَلَّلاً بعلة منصوصة , وهي أن الأمة «أُمِّيَّةٌ لاَ تَكْتُبُ وَلاَ تَحْسُبُ» , والعلة تدور مع المعلول وُجُودًا وَعَدَمًا , فإذا خرجت الأمة عن أميتها , وصارت تكتب وتحسب , أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم , وأمكن الناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر , وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى , إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية: وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت , وأن يأخذوا في إثبات الأهلة الحساب وحده , وأن لا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين يستعصي عليهم العلم به , كما إذا كان الناس في بادية أو قرية , لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب.
وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه , وجب أيضًا الرجوع