إنه الغلو الذي هلك به من قبلنا من أهل الكتاب , ممن غلا في العقيدة , أو غلا في العبادة , أو غلا في السلوك، فخرج بالدين عن سهولته، وشرع فيه ما لم يأذن به الله، وحرم على الناس ما أحل الله، وجشمهم تكاليف وآصارًا لم يفرضها الله تعالى عليهم.
وقد سجل القرآن عليهم ذلك حين قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
ولهذا روى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» (?).
وروى ابن مسعود عنه: «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» قَالَهَا ثَلاَثًا (?).
ومما يذكر هنا: أن الحديث اعتبر الغلو (تَحْرِيفًا) للدين، وذلك لأنه بغير طبيعته السهلة الميسرة الوسطية، إلى طبيعة أخرى، تكلف الناس شططًا، وترهقهم عسرًا.
(ب) ـ وهناك: (الاِنْتِحَالُ) الذي يحاول به أهل الباطل أَنْ يُدْخِلُوا على هذا المنهج النبوي ما ليس منه , وأن يلصقوا به من المحدثات والمبتدعات ما تأباه طبيعته , وترفضه عقيدته وشريعته , وتنفر منه أصوله وفروعه.
ولما عجزوا عن إضافة شيء إلى القرآن المحفوظ في الصدور , المسطور في المصاحف , المَتْلُوِّ بالألسنة , حسبوا أن طريقهم إلى الانتحال في السنة ممهد , وأن بإمكانهم أن يقولوا: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون بينة.
ولكن جهابذة الأمة وحفظة السنة , قعدوا لهم كل مرصد , وسدوا عليهم كل منافذ الانتحال.