روى الإمام أحمد والطبراني وأبو يعلى رحمهم الله جميعاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرجل هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه، وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستقرين في الشام، بينما سيدنا جابر كان في المدينة، وقد سمع أن عبد الله بن أنيس يقول حديثاً فيه كذا وكذا، وهو لم يسمع هذا الحديث منه، وقبل ذلك لم يسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، فيريد أن يتأكد من الحديث، مع أن الذي نقل له هذا الحديث يمكن أن يكون ثقة، لكن أراد أن يذهب إلى الشام فيسمع الحديث بنفسه من عبد الله بن أنيس، وهذا ما يسمى عند علماء الحديث بـ: علو السند.
فهو لا يريد أن يسمع من فلان عن فلان عن عبد الله بن أنيس، بل يريد أن يسمع منه مباشرة، فيكون أوثق في المعرفة، فاشترى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بعيراً ليركب عليه من المدينة إلى الشام، ثم شدّ عليه رحله وسار شهراً حتى قدم الشام، وقدم على بيت عبد الله بن أنيس الأنصاري رضي الله عنه، فقال لحاجبه: قل لسيدك: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يجر ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، والعجب أن أول شيء قال له بعد هذا الفراق الطويل بينهما: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أسمعه.
فقال عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلاً بهماً، قالوا: وما بهم؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق، حتى أقصه منه، حتى اللطمة)، تهديد وتخويف عظيم، فما بالك بالناس التي تظلم وتعذب وتشرد وتسجن من غير وجه حق، يا ترى ماذا ستعمل هذه الناس يومذاك؟! فيقول عبد الله بن أنيس: (قلنا: كيف هو وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ -يعني: ليس معنا شيء فكيف سنخلص حقوق بعض- فقال صلى الله عليه وسلم: بالحسنات والسيئات).
وعند هذا انتهى الحديث، فأخذه جابر بن عبد الله ثم رجع إلى المدينة المنورة، وكل هذا من أجل حديث واحد، فيا ترى كم عندنا كتب في المكتبة فيها أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم نقرأها؟ أليس لدينا وقت لذلك؟ ولماذا وجد جابر بن عبد الله وقتاً حتى يقطع المسافات الكبيرة من أجل أن يعرف حديثاً واحداً؟ لاشك أنه أعطى للموضوع أهمية، فلذلك استطاع أن يجد وقتاً، وكذلك ما دام العبد يعطي لموضوع أهمية، فإنه يستطيع أن يجد له وقتاً، كالواحد منا يستطيع أن يجد أسبوعاً كاملاً يذهب فيه إلى عطلة الصيف؛ لأنه عرف قيمة المصيف عنده، وكذلك يستطيع أن يجد ساعتين يتفرج فيها على المباراة؛ لأنه عرف قيمة المباراة عنده، وعليه فعلى قدر أهمية الموضوع عندك ستجد له وقتاً.