برزت عظمة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هذا الرجل الذي كان في أعظم درجات الملك، وفي أعلى درجات التفوق والانتصار، فقد كان جيش المسلمين في الشام قبل أن يأتي خالد بن الوليد في أزمة خطيرة، ولم يستطع أن يحقق إلا نصراً يسيراً جداً، وظل شهوراً لا يستطيع أن ينتصر، بينما سيدنا خالد كان في العراق له انتصاراته الأولى والثانية والثالثة، ففكر سيدنا أبو بكر بنقل خالد من العراق لينقذ جيوش الشام، وعندما أتى خالد من العراق إلى الشام، وهو في طريقه إلى جيش الشام حقق خمسة انتصارات في الشام، وهذا قبل أن يقابل جيش الشام، وبعد أن قابل جيش الشام كانت موقعة اليرموك الخالدة، أي: أن سيدنا خالداً كان يعمل عملاً لا يستطيع أحد تصوره حتى الناس الذين يعيشون معه، سواء من الصحابة أو غيرهم، وهنا سيدنا أبو بكر يقول: أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد؟ فانظروا إلى خالد وهو في قمة هذا الانتصار يعزل، فماذا كان ردة فعله؟ إن خالداً في كل هذا الطريق وفي كل هذه الانتصارات لم يقل كلمة (أنا) مرة واحدة، بل كان دائماً ينسب الأمر إلى الله عز وجل، وتأمل إلى هذا الموقف في موقعة اليرموك لأحد الجنود المسلمين، إذ يقول بعد أن نظر إلى أعداد الروم الهائلة: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فسمعه خالد بن الوليد فقال له في ثقة شديدة، ثقة الرجل الواثق من ربه سبحانه وتعالى: اصمت أيها الرجل، بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بنصر الله عز وجل، وتقل الجنود بالخذلان لا بعدد الرجال، ووالله لوددت أن الأشقر -أي: فرسه- براء من توجعه وأنهم أُضعفوا في العدد.
أي: وددت أن يكون فرسي سليماً والرومان أربعمائة ألف.
فـ خالد بن الوليد عندما أتاه قرار العزل سلّم الراية بدون تردد إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقال: ما عليّ أن أقاتل في سبيل الله قائداً أم جندياً.
أي: ما دام أن ذلك كله في سبيل الله فلا فرق بين أن أكون قائداً أم جندياً؛ لأنه في النهاية كله في سبيل الله، والغاية هي إرضاء الله عز وجل، سواء أرضاه في كرسي الحاكم، أو في كرسي المحكوم، أو في كرسي القائد، أو في كرسي الجندي، ففي النهاية أنت ترضي الله عز وجل.
ثم قام يخطب في الجيش ويقول: بعث عليكم أمين هذه الأمة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) ولم يقل: بماذا فُضِّل عليّ؟ ولم يقل: ما الذي فعله أبو عبيدة قبل أن آتي من العراق؟ ولم يخبر أنه قد ظُلم بهذا القرار، مع أن كل الجيش كان يحبه حباً لا يوصف، لكن لو كان قال هذا الكلام لأحدث فتنة، لكنه لا يريد ذلك، ولماذا الفتنة؟ من أجل الدنيا، هو يعرف قيمة الدنيا، فهي لا تساوي عنده شيئاً.
فقد خاض رضي الله عنه معارك كثيرة جداً، حتى قيل: إنها قد تجاوزت المائة، وانتصر فيها جميعاً دون هزيمة واحدة، وغنم غنائم شتى، وربح أموالاً عظيمة، ولم يترك بعد موته إلا فرساً وسلاحاً وغلاماً فقط من كل هذه الدنيا، بل وأمر بإرسالها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقال: اجعلوها عُدة في سبيل الله، لكن من يستطيع أن يحمل سيفه بعد موته؟ من يستطيع أن يركب خيله؟ أين ذهبت أمواله وغنائمه؟ لقد أنفقها جميعها في سبيل الله، فقد كان جواداً عظيم الجود، كريماً واسع الكرم، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولا عجب فهو تلميذ نجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما هو أكثر ما تمتع به خالد بن الوليد رضي الله عنه في حياته؟ قال خالد بن الوليد: ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أصبّح فيها العدو.
فهذه هي متعته في الدنيا، وليست السلطة ولا الإمارة ولا الأموال ولا النساء، بل الجهاد في سبيل الله، وليس أي جهاد، بل الجهاد الصعب الخطير في البرد والليل والجيش القليل والعدو الكثير، فهذا هو خالد بن الوليد وهذه متعته.
وقال وهو على فراش الموت: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تهلني -أي: تمطر علي- ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار.
ثم قال كلمته المشهورة وهو يبكي: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، وها أنا أموت حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.
فهذه حياة عظيمة خالدة، أتظنون أن ضرب السيوف أو رمي السهام لم يكن يؤلم خالد بن الوليد؟ بل كان يؤلمه، لكنه فقه حقيقة الدنيا، وعلم أنها أيام قليلة يقضيها ثم يموت، علم أن الله عز وجل إن كتب علي