ما هو حجم الدنيا الحقيقي؟ روى مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بن سعيد إلى السبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع)، وانظر إلى ما ترجع به الإصبع.
فهذا هو حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، فالدنيا بأموالها وأملاكها وأرضها ومتعتها وزهرتها ما هي إلا قطرات في الآخرة، والدنيا بكل ما فيها من جنيهات ودولارات وريالات، وكل ما يتعلق به القلب لا تساوي إلا قطرات قليلة بالنسبة لليم إذا قورنت بالآخرة، هذا هو حجم الدنيا، فهل نحن نفهم الدنيا بالحجم هذا، أو أنا أعطيناها حجماً أكبر من هذا الحجم الطبيعي.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة)، أي: أنه جلس في فترة القيلولة تحت ظل شجرة، ثم قال: (في يوم صائف، ثم راح وتركها)، فحياتك على الأرض كفترة القيلولة التي أخذتها تحت ظل شجرة في صحراء واسعة جداً مررت بجانبها في يوم من أيام حياتك، واليوم قد مضى وانتهى من زمان، فقارن عمرك في الأرض بالفترة التي سوف تعيشها في القبر بعد ذلك، وقارن كل هذا بالخلود في الآخرة، فهناك أناس في قبورهم منذ ألف سنة أو ألفين أو خمسة آلاف، وأنت مهما عشت فكم سوف تعيش؟ ما بين ستين سنة إلى مائة سنة، وبعد هذا العمر ما الذي سيحصل؟ تذهب وتترك هذه الدنيا، وعند البعث يوم القيامة كيف سيكون الوضع؟ لا يوجد موت آخر، وإنما خلود ولا موت، وعيشة إلى ما لا نهاية، إما جنة وإما نار، وأي شيء فيه ما لا نهاية فكم سيساوي؟ يقول علماء الرياضيات: يساوي صفراً، أي: أنه عندما تقول: حياتك على وجه الأرض كما لو كان أحد يأخذ قيلولة فقط تحت ظل شجرة في يوم من الأيام، فهذه مبالغة؛ لأن هذا كثير جداً، فأنت أقل من هذا، فهذه الفترة تساوي صفراً؛ لأنها تقاس إلى ما لا نهاية يوم القيامة.
وروى مسلم عن جابر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، والناس كنفتيه أو كنفيه)، روايتان في ذلك، يعني: أن الناس يحيطون به، من هؤلاء الناس؟ إنهم الصحابة، هذا الجيل الذين نريد أن نقلدهم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم درساً عملياً: (فمر صلى الله عليه وسلم بجدي أسك ميت)، أي: أن أذنيه صغيرتين، والجدي ذو الأذنين الصغيرتين يكون جَدياً معيباً، والناس لا تشتريه حتى وإن كان حياً فكيف إذا كان ميتاً؟ (فتناوله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذنه)، أي: أنه مسك بالأذن ليعرّف الصحابة بأن هذا الجدي فيه عيب، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)، أي: من يشتري هذا الجدي الذي به عيب وهو ميت أيضاً بدرهم؟ اسأل نفسك نفس السؤال لتعرف ماذا كان رد الصحابة: أتريد أن تشتري جدياً ميتاً في الشارع سواء كان معيباً أو غير معيب بجنيه أو بنصف جنيه؟ (فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: أتحبون أنه لكم؟ -أي: بدون أي مقابل من المال- قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟)، فهم ظنوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعرف بالعيب، فأرادوا أن يوضحوا له الرؤية فقالوا له: إنه لو كان حياً فلن نأخذه، فما بالك وهو ميت؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن الجدي أسك وفي نفس الوقت ميت، فقال صلى الله عليه وسلم: (والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)، أي: أن الدنيا كلها أهون على الله من هذا الجدي المعيب الميت، فلماذا نحن نتصارع من أجل هذه الدنيا؟ ولماذا نخسر بعضنا من أجلها؟ ولماذا نظلم بعضنا من أجلها؟ ولماذا نجد أناساً يكافح مدة عمره فيظلم ويغش ويعصي من أجل أن يكسب كرسياً أو شقة أو وزارة أو ملكاً في هذه الدنيا؟ مع أن الدنيا كلها أرخص من جدي أسك ميت لا يساوي درهماً ولا أقل من درهم.
أترون كيف كان المثل الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم للدنيا؟ فلماذا كل هذا الصراع على الدنيا؟ لأن الناس لم تفهم قيمة الدنيا، فهي مشغولة بالمظهر عن المخبر، ولا تعرف حقيقتها، ولم تعمل المقارنة بين الدنيا والآخرة، وذلك هو الجهل والحمق والغفلة، والمهم أن الناس ضائعة؛ لأنها لا تستطيع أن تفهم القيمة الحقيقية للدنيا، ولو فهمت فعلاً لم يكن هذا هو حالها أبداً.
روى الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، أي: أن الدنيا لا تعدل بعوضة كاملة، بل لا تعدل ولا تساوي جناح بعوضة، لكن نحن نرى الكفار يشربون ماء في