إن الله عز وجل عادل لا يظلم مثقال ذرة، فقد أعطى هذا الإنسان عقلاً يستطيع أن يميز به بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وأنزل له شرعاً سهلاً مفهوماً واضحاً، جميلاً وأعطاه فطرة سليمة تقبل الطيب وتكره القبيح، وأعطاه بعد كل ذلك فرصة الاختيار، فيختار هو كل شيء: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، أي: وضحنا له الطريقين: طريق الهداية وطريق الضلالة، طريق الخير وطريق الشر، واسمع وتدبر في الكلام المعجز في كتاب الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:18]، أي: الدنيا وملذاتها وشهواتها غير المكبوتة، الثمرة ولو كانت حراماً، ثم بين الله ماذا سيحصل بعد ذلك فقال: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فالذي يريد الدنيا فالله سيعطيه، والذي يريد المعصية سيعملها، والذي يريد الحياة التافهة الحقيرة التي لا وزن لها سيأخذها، لذا فإن أهل المعاصي يمكن أن يرتفعوا وأن يغتنوا، ويمكن أن يحكموا، لكن ما هو الوضع في الآخرة؟ يقول الله عز وجل في بقية الآيات: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، أي: يدخلها ممقوتاً مطروداً من رحمة الله عز وجل، فهذا هو الفريق الذي عاش حياته كلها بهذه الصورة، فأراد العاجلة وليس له في الآخرة نصيب.
الفريق الثاني: يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} [الإسراء:19]، أي: يريد الجنة، وتنبه فالرغبة وحدها لا تكفي، وكلام اللسان فقط ليس كاف، وإنما لا بد من العمل والحركة والسعي، قال تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، لا بد من شغل وعمل، {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وانظر إلى تعليق الله عز وجل على الفريقين فيقول: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، فالذي يريد دنيا ولا يريد آخرة سيأخذ، والذي يريد آخرة حتى ولو كانت على حساب الدنيا سيأخذ أيضاً إن شاء الله.
والمهم ماذا تريد أنت؟ فأنت الذي تحدد، وأنت الذي تختار ما لا يوجد أحد يظلم، لذا فإن الصحابي في لحظة الصدق التي أسلم فيها اختار بصدق ومضى في الطريق الواضح فوصل والحمد لله، ونحن كذلك إن أردنا أن نصل، فالله عز وجل لا يظلم، وكلامه سبحانه وتعالى كله حق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، لا أحد، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، لا أحد، وهو القائل كما سبق: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، أي: إن عملت للآخرة ستأخذ نصيبك إن شاء الله، كلام واضح لا يحتاج إلى تأويل، تريد دنيا أم تريد آخرة؟ كن واضحاً وصادقاً مع نفسك، هذا هو مفهوم الآيات التي ذكرناه منذ قليل.
وخلاصة القول: أن الصحابة لم يخلقوا صحابة، بل عاشوا قبل إيمانهم حياة بعيدة كل البعد عن مظاهر الإسلام أو الالتزام، فمنهم من كان يعبد الحجر أو الشجر، ومنهم من كان يسرق، ومنهم من كان يظلم، ومنهم من كان يشرب الخمر، ومنهم من كان يأد البنات، ومنهم من كان يعذب المؤمنين والمؤمنات، ثم عرض لهم طريق الخير وطريق الشر بوضوح، وفي لحظة صدق اختاروا طريق الخير فصاروا صحابة، بينما أناس كثيرون عاشوا معهم في نفس البلد والزمن والظروف، ورأوا الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم اختاروا طريق الشر فصاروا مشركين ومنافقين ويهود.
فالإنسان هو الذي يختار، وليست عظمة الإنسان بكونه عاش في زمان معين، أو بكونه صاحب مال أو سلطان أو جاه، أو بكونه من سلالة فلان أو فلان، لا، إنما عظمة الإنسان الحقيقية تكون بقدر تعظيم هذا الدين، وبقدر حب الله عز وجل في قلبه، وبقدر قيمة الشرع في حياته، وبقدر احترام الإنسان لنفسه كإنسان، فهذا هو الإنسان في الإسلام.
وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يحشرنا مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.