مصعب بن عمير رضي الله عنه، ذلك الشاب المترف، يعني: بلغة العصر الحديث: مدلع جداً، فقد كانت أمه غنية، وكانت تأتي له بملذات العيش من مكة ومن خارجها، وتعود على الترف المستورد، فالملابس من اليمن، والعطور من الشام، ولم يكن له هم في حياته إلا البحث عن اللذة المادية، وليس له أي تدخل بالذي يحصل حوله في الدنيا، وليس له في الدين أمر أو شأن، وكذلك في العلم والسياسة والحرب ليس له أي دخل، وليس له في مشاكل الناس أي دخل، فعاش حياة فارغة تماماً، وهذا كحال الشباب اليوم، فكثير من الشباب ليس له أي اهتمام إلا في لبسه وسيارته والنادي الذي يشترك فيه، والموبايل الذي يحمله، ما لونه؟ ما نوعه؟ ما رنته؟ هل فيه كاميرا أم لا؟ هل فيه ألوان أم لا؟ فتنقلب الدنيا حوله مائة مرة وهو لا يدري ما الأمر؟ لأنه مشغول ليل نهار: أغنية، فيلم، مباراة، قصة شعر، صحبة، سهرة، سيجارة، مجلة، ويخيل له أنه سعيد بذلك! وهذه قصة لواحد من هؤلاء الشباب، فقد أزعجني أسبوعين أو ثلاثة وهو يرن لي على الموبايل ويقفل، خمس أو ست مرات في اليوم، ويعتبر هذا نوعاً من المرح، وهو في الحقيقة خفة دم، ثم أخذته الحمية فأصبح يرن لي على الموبايل عشرين مرة في اليوم، بل وفي أوقات صعبة جداً، فقد أكون نائماً أو مشغولاً أو أقرأ شيئاً، ثم تطور معه الموضوع فصار يبعث رسائل: أنا أعرفك، ألست أنت الدكتور راغب؟ هل عرفتني بعد أم لا؟ والحقيقة أنني فكرت أن أبلغ شرطة التلفونات، لكن لم أعمل ذلك؛ لأن هذا الشاب مسكين، فوقته ضائع، وفكره ضائع، وجهده ضائع، والمشكلة أن هذه الأشياء تسبب له نوعاً من السعادة، سعادة التافهين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نعود مرة أخرى لـ مصعب بن عمير الذي كان يعيش مثل هؤلاء، لكن لم يكن عنده موبايل، يعني: أنه كان يعيش كهؤلاء ثم ماذا حصل؟ حصل أنه أسلم لله عز وجل، أسلم بالمعنى الذي قلناه، ومن ثم حصل له نقلة هائلة في كيان وتكوين هذا الشخص، فتحول فجأة من الشاب المترف الناعم المدلع إلى شاب صلب قوي عملاق، صاحب تقوى وزهد وعلم وقوة وتضحية وفروسية، فحرمته أمه من كل الدنيا الحلوة التي كانت تأتي بها له، لكنَّ مصعباً ذاق معنى السعادة الحقيقية، وعرف أن السعادة الحقيقة ليست في لبس أو أكل أو عطر، وإنما السعادة الحقيقة في إحساسك أن لك قيمة، وأن لك هدفاً وغاية، وأنك تعرف ربك وتعرف كيف تعبده، وأنك تجاهد في سبيل الله، وأنك تهاجر في سبيل الله، وأنك تضحي في سبيل الله، فقد تغيرت مقاييس السعادة تماماً في حياة مصعب، فقد هاجر إلى الحبشة الأولى والثانية، ثم ذهب إلى المدينة المنورة ليعلم أهلها الإسلام، وأصبحت سعادته الكبرى أن يرى رجلاً ينتقل من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، حتى وإن كان لا يعرف هذا الرجل من قبل، بل ولم يكتف مصعب بالهجرة إلى الحبشة وتعليم الناس في المدينة ودعوتهم إلى الإسلام، وبأن كان سبباً مباشراً في إسلام مدينة كاملة أصبحت عاصمة للإسلام والمسلمين، لم يكتف بأنه نقل الدعوة من مرحلة إلى مرحلة أخرى، لم يكتف بذلك كله، بل أراد أن يذوق من كل أنواع السعادة في الإسلام، فهو قد ذاق حلاوة العقيدة، وذاق حلاوة الإخوة، وذاق حلاوة الهجرة، وذاق حلاوة الدعوة، فهو يريد أن يذوق حلاوة الجهاد في سبيل الله، وهذه الأمور لها حلاوة لا يعرفها ولن يذوقها إلا الذي جربها، ولن نستطيع أن نصفها لك، فهي حلاوة فيها مشاق ومتاعب، لكن الذين يعملونها يستمتعون بها، بالإضافة إلى أنهم يتعاملون معها على أنها فرض من ربنا سبحانه وتعالى.
ثم خرج مصعب يجاهد في سبيل الله، فخرج في بدر، ثم خرج في أحد، وانظروا إلى الشاب مصعب بن عمير الذي كان شاباً يعيش على هامش التاريخ قبل أن يسلم، وانظروا إليه في أحد وهو يحمل راية المسلمين، وانظروا إليه بعد أن أصبح إنساناً قد انتقل من اللاإنسانية إلى الإنسانية، مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين في أحد قاتل بضراوة، وجاهد بإخلاص، وحارب بالثبات النادر، فقطعت يده اليمنى، فأمسك اللواء بيده اليسرى، فقطعت يده اليسرى، ثم سقط مصعب على الأرض، لكنه أمسك الراية بعضدية ولم يسمح لها أن تسقط، فلا يمكن أن تسقط راية الإسلام وما زالت به حياة، وأصبحت راية الإسلام هذه قضية مصعب الكبرى، وخدمة الإسلام ونصرته، أصبحت أهداف وطموحات مصعب، وإلى آخر نبضة قلب في حياته كان مصعب في سبيل الله، ومن أرض أحد إلى الجنة مباشرة، فقد استشهد رضي الله عنه وأرضاه وذهب إلى النعيم الحقيقي، لا النعيم الدنيوي، فكل هذا لا يساوي غمسة ولحظة واحدة في النعيم المقيم، ففي الجنة خلود ولا موت، فهذه هي حياة مصعب بن عمير، فيا ترى هل تريد أن تعيش عيشته أيام اللبس والعطر والمتعة والفراغ وكل حياته السابقة للإسلام؟ أم تريد أن تعيش عيشة أيام الهجرة والدعوة والجهاد والتضحي